فصل: تفسير الآية رقم (37)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الألوسي المسمى بـ «روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني» ***


تفسير الآية رقم ‏[‏35‏]‏

‏{‏وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآَيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ ‏(‏35‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِن كَانَ كَبُرَ‏}‏ أي شق وعظم وأتى بكان على ما قيل ليبقى الشرط على المضي ولا ينقلب مستقبلاً لأن كان لقوة دلالته على المضي لا تقلبه إن للاستقبال بخلاف سائر الأفعال وهو مذهب المبرد، والنحويون يؤولون ذلك بنحو وإن تبين وظهر أنه كبر ‏{‏عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ‏}‏ أي الكفار عن الايمان بك وبما جئت به من القرآن المجيد حسبما يفصح عنه قولهم فيه أساطير الأولين وينبىء عنه فعلهم من النأي والنهي، ولعل التعبير بالإعراض دون التكذيب مع أن التسلية على ما ينبىء عنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ كُذّبَتْ رُسُلٌ مّن قَبْلِكَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 34‏]‏ كانت عنه لتهويل أمر التكذيب وهو فاعل ‏{‏كَبُرَ‏}‏، وتقديم الجار والمجرور لما مر مراراً‏.‏ والجملة خبر ‏{‏كَانَ‏}‏ مفسرة لاسمها الذي هو ضمير الشأن‏.‏ ولا حاجة إلى تقدير قد، وقيل‏:‏ اسم كان ‏{‏إِعْرَاضُهُمْ‏}‏، و‏{‏كَبُرَ‏}‏ مع فاعله المستتر الراجع إلى الاسم خبر لها مقدم على اسمها، والكلام استئناف مسوق لتأكيد إيجاب الصبر المستفاد من التسلية ببيان أن ذلك أمر لا محيد عنه أصلاً‏.‏ وفي بعض الآثار أن الحارث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم في محضر من قريش فقالوا‏:‏ يا محمد ائتنا بآية من عند الله تعالى كما كانت الأنبياء تفعل وإنا نصدقك فأبى الله تعالى أن يأتيهم بآية مما اقترحوا فأعرضوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فشق ذلك عليه عليه الصلاة والسلام لما أنه كان صلى الله عليه وسلم شديد الحرص على إيمان قومه فكان إذا سألوه آية يود أن ينزلها الله تعالى طمعاً في إيمانهم فنزلت‏:‏ ‏{‏فَإِن استطعت‏}‏ أي إن قدرت وتهيأ لك ‏{‏أَن تَبْتَغِىَ‏}‏ أي تطلب ‏{‏نَفَقاً فِى الارض‏}‏ «هو السَّرَب فيها له مخلص إلى مكان» كما في «القاموس»، وأصل معناه جحر اليربوع، ومنه «النافقاء لأحد منافذه، ويقال لها النُفَقَة كهُمَزَة وهي التي يكتمها ويظهر غيرها فإذا أُتِيَ من القاصِعَاء ضربها برأسه فانتفق» ومنه أخذ النفاق، والجار متعلق بمحذوف وقع صفة ‏{‏نَفَقاً‏}‏ والكلام على التجريد في رأي، وجوز تعلقه بتبتغي وبمحذوف وقع حالاً من ضميره المستتر أي نفقاً كائناً في الأرض أو تبتغي في الأرض أو تبتغي أنت حال كونك في الأرض ‏{‏أَوْ سُلَّماً فِى السماء‏}‏ أي مرقاة فيها أخذاً من السلامة، قال الزجاج‏:‏ لأنه الذي يسلمك إلى مصعدك، وهو كما قال الفراء‏:‏ مذكر واستشهدوا لتذكيره بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ‏}‏ ‏[‏الطور‏:‏ 38‏]‏ ثم قال‏:‏ وأنشدت في تأنيثه بيتاً أنسيته انتهى‏.‏ قال الغضايري‏:‏ البيت الذي أنسيه الفراء بيت أوس وهو

‏:‏ لنا سلم في المجد لا يرتقونها *** وليس لهم في سورة المجد سلم

وأنشدوا أيضاً في تذكيره‏:‏ الشعر صعب وطويل سلمه *** إذا ارتقى فيه الذي لا يعلمهيريد أن يعربه فيعجمه و‏{‏فِى السماء‏}‏ نظير ما في الجار قبله من الاحتمالات‏.‏

‏{‏فَتَأْتِيَهُمْ‏}‏ أي منهما ‏{‏بِئَايَةٍ‏}‏ مما اقترحوه من الآيات‏.‏ والفاء في صدر هذه الشرطية جوابية وجواب الشرط فيها محذوف‏.‏ ولك تقديره أتيت بصيغة الخبر أو فافعل فعل أمر؛ والجملة جواب للشرط الأول، والمعنى إن شق عليك إعراضهم عن الإيمان وأحببت أن تجيبهم عما سألوه اقتراحاً ليؤمنوا فإن استطعت كذا فتأتيهم بآية فافعل، وفيه إشارة إلى مزيد حرصه صلى الله عليه وسلم على إيمان قومه وتحصيل مطلوبهم واقتراحهم مع الإيماء إلى توبيخ القوم أو المعنى أن شق عليك إعراضهم فلو قدرت أن تأتي بالمحال أتيت به، والمقصود بيان أنه صلى الله عليه وسلم بلغ في الحرص على إيمانهم إلى هذه الغاية، وفيه إشعار ببعد إسلامهم عن دائرة الوجود كما لا يخفى على المتدبر، وإيثار الابتغاء على الاتخاذ ونحوه للإيذان بأن ما ذكر من النفق والسلم مما لا يستطيع ابتغاءه فكيف باتخاذه‏.‏ وجوز أن يكون ابتغاء ذينك الأمرين أعني نفس النفوذ في الأرض والصعود إلى السماء آية، فالفاء في ‏{‏فَتَأْتِيَهُمْ‏}‏ حينئذ تفسيرية وتنوين ‏{‏ءايَةً‏}‏ للتفخيم، والمعنى عليه فإن استطعت ابتغاءهما فتجعل ذلك آية لهم فعلت‏.‏ ورده أبو حيان بأن هذا لا يظهر من ظاهر اللفظ إذ لو كان كذلك لكان التركيب فتأتيهم بذلك آية أي أية، وأيضاً فأي آية في دخول سرب في الأرض وإن صح أن يكون الرقي إلى السماء آية، وما ذكرناه من أن إيتاء الآية منهما هو الظاهر المتبادر إلى الأذهان‏.‏ ورواه ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في «الأسماء والصفات» عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وقيل‏:‏ إن المراد فتأتيهم بآية من السماء وابتغاء النفق للهرب، وأيد بما أخرجه الطستي عن نافع بن الأزرق أنه قال لابن عباس رضي الله تعالى عنهما‏:‏ أخبرني عن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِن استطعت أَن تَبْتَغِىَ نَفَقاً فِى الارض‏}‏ فقال رضي الله تعالى عنه سرباً في الأرض فتذهب هرباً وفيه بعد، وخبر ابن الأزرق قد قيل فيه ما قيل‏.‏

‏{‏وَلَوْ شَاء الله لَجَمَعَهُمْ عَلَى الهدى‏}‏ أي لو شاء الله تعالى جمعهم على ما أنتم عليه من الهدى لجمعهم عليه بأن يوفقهم للإيمان فيؤمنوا معكم ولكن لم يشأ ذلك سبحانه لسوء اختيارهم حسبما علمه الله تعالى منهم في أزل الآزال، وقالت المعتزلة‏:‏ المراد لو شاء سبحانه جمعهم على الهدى لفعل بأن يأتيهم بآية ملجئة إليه لكنه جل شأنه لم يفعل ذلك لخروجه عن الحكمة، والحق ما عليه أهل السنة‏.‏

‏{‏فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الجاهلين‏}‏ أي إذا عرفت أنه سبحانه لم يشأ هدايتهم وإيمانهم فلا تكن بالحرص الشديد على إسلامهم أو الميل إلى نزول مقترحاتهم من قوم ينسبون إلى الجهل بدقائق شؤونه تعالى، وجوز أن يراد بالجاهلين على ما نقل عن المعتزلة المقترحون، ويراد بالنهي منعه صلى الله عليه وسلم من المساعدة على اقتراحهم، وإيرادهم بعنوان الجهل دون الكفر لتحقق مناط النهي‏.‏ وقال الجبائي‏:‏ المراد لا تجزع في مواطن الصبر فيقارب حالك حال الجاهلين بأن تسلك سبيلهم والأول أولى، وفي خطابه سبحانه لنبيه صلى الله عليه وسلم بهذا الخطاب دون خطابه بما خوطب به نوح عليه السلام من قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏إِنّى أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الجاهلين‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 46‏]‏ إشارة إلى مزيد شفقته صلى الله عليه وسلم واشتباب حرصه عليه الصلاة والسلام فافهم هذا‏.‏

ومن باب الإشارة في الآيات‏:‏ ‏{‏وَلَهُ مَا سَكَنَ فِى اليل والنهار‏}‏ يحتمل أن يكون الليل والنهار إشارة إلى قلب الكافر وقلب المؤمن وما سكن فيهما الكفر والإيمان ومعنى كون ذلك له سبحانه أنه من آثار جلاله وجماله، ويحتمل أن يكون إشارة إلى قلب العارف في حالتي القبض والبسط فكأنه قيل‏:‏ وله ما سكن في قلوب العارفين المنقبضة والمنبسطة من آثار التجليات فلا تلتفت في الحالتين إلى سواه عز شأنه ‏{‏وَهُوَ السميع العليم‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 13‏]‏ فيسمع خواطرها السيئة والحسنة ويعلم شرها وخيرها أو فيسمع أنينها في شوقه ويعلم انسهابه أو نحو ذلك‏.‏ ‏{‏قُلْ أَغَيْرَ الله أَتَّخِذُ وَلِيّاً‏}‏ أي ناصراً ومعيناً ‏{‏فَاطِرَ السموات والارض‏}‏ أي مبدعهما فهي ملكه سبحانه ونسبة المملوك إلى المالك نسبة اللاشيء إلى الشيء ‏{‏وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ‏}‏ فهو الغني المطلق وغيره جل شأنه محتاج بحت وطلب المحتاج من المحتاج سفه في رأيه وضلة من عقله ‏{‏قُلْ إِنّى أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ‏}‏ نفسه لربه عز شأنه، والمراد بالأمر بذلك الأمر الكوني أي‏:‏ قل إني قيل لي‏:‏ كن أول من أسلم فكنت، وذلك قبل ظهور هذه التعينات وإليه الإشارة بما شاع من قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «كنت نبياً وآدم بين الماء والطين» فأول روح ركضت في ميدان الخضوع والانقياد والمحبة روح نبينا صلى الله عليه وسلم وقد أسلم نفسه لمولاه بلا واسطة وكل إخوانه الأنبياء عليهم الصلاة والسلام إنما أسلموا نفوسهم بواسطته عليه الصلاة والسلام، فهو صلى الله عليه وسلم المرسل إلى الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام في عالم الأرواح وكلهم أمته وهم نوابه في عالم الشهادة، ولا ينافي ذلك أمره عليه الصلاة والسلام باتباع بعضهم في النشأة الجسمانية لأن ذلك لمحض استجلاب المعتقدين بأولئك البعض على أحسن وجه

‏{‏وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ المشركين‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 14‏]‏ أي وقيل لي‏:‏ لا تكونن ممن أشرك مع الله تعالى أحداً بشيء من الأشياء‏.‏ ‏{‏وَهُوَ القاهر فَوْقَ عِبَادِهِ‏}‏ بإفنائهم والتصرف بهم كيف شاء ‏{‏وَهُوَ الحكيم‏}‏ أي الذي يفعل ما يفعل في عباده بالحكمة ‏{‏الخبير‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 18‏]‏ الذي يطلع على خفايا الأحوال ومراتب الاستحقاق ‏{‏قُلْ أَىُّ شَىْء أَكْبَرُ شهادة قُلِ الله شَهِيدٌ بِيْنِى وَبَيْنَكُمْ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 19‏]‏ بإظهار المعجزات، وأعظم من ذلك عند العارفين ظهور أنوار الله تعالى في مرآة وجهه الشريف صلى الله عليه وسلم ‏{‏الذين آتيناهم الكتاب يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 20‏]‏ وذلك بالصفات التي وجدوها في كتابهم لا بالنور المتلألىء على صفحات ذلك الوجه الكريم ‏{‏وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِباً‏}‏ بإثبات وجود غيره تعالى أو كذب بآياته فأظهر صفات نفسه ‏{‏إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظالمون‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 21‏]‏ لاحتجابهم بما وضعوه في موضع ذات الله تعالى وصفاته جل وعلا ‏{‏وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً‏}‏ وهو يوم القيامة الكبرى وعين الجمع ‏{‏ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ‏}‏ بإثبات الغير ‏{‏أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الذين كُنتُمْ تَزْعُمُونَ‏}‏ ‏[‏الأنعم‏:‏ 22‏]‏ أنهم شركاء ولهم وجود ‏{‏ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ‏}‏ أي نهاية شركهم عند ظهور الأمر وبروز الكل لله الواحد القهار ‏{‏إِلاَّ أَن قَالُواْ والله رَبّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 23‏]‏ لامتناع وجود شيء نشركه ‏{‏انظر كَيْفَ كَذَبُواْ على أَنفُسِهِمْ‏}‏ بنفي الشرك عنها مع رسوخ ذلك الاعتقاد فيها ‏{‏وَضَلَّ‏}‏ أي ضاع ‏{‏عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 24‏]‏ فلم يجدوه ‏{‏وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ‏}‏ من حيث أنت ‏{‏وَجَعَلْنَا على قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً‏}‏ حسبما اقتضاه استعدادهم ‏{‏أَن يَفْقَهُوهُ‏}‏ وهي ظلمات النفس الأمارة ‏{‏وَجَعَلْنَا على قُلُوبِهِمْ‏}‏ وهو وقر الضلالة ‏{‏وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا على قُلُوبِهِمْ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 25‏]‏ لأن على أبصارهم غشاوة العجب والجهل ‏{‏وَلَوْ ترى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النار‏}‏ وهي نار الحرمان ‏{‏فَقَالُواْ ياليتنا ياليتنا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذّبَ بئايات رَبّنَا‏}‏ من تجليات صفاته ‏{‏وَنَكُونَ مِنَ المؤمنين‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 72‏]‏ أي الموحدين ‏{‏بَلْ بَدَا لَهُمْ مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ مِن قَبْلُ‏}‏ في أنفسهم من الملكات الرديئة والهيئات المظلمة والصفات المهلكة ‏{‏وَلَوْ رُدُّواْ لعادوا لِمَا نُهُواْ عَنْهُ‏}‏ لرسوخ ذلك فيهم ‏{‏وَإِنَّهُمْ لكاذبون‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 28‏]‏ في الدنيا والآخرة لأن الكذب عن ملكة فيهم ‏{‏وَلَوْ ترى إِذْ وُقِفُواْ على رَبّهِمْ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 30‏]‏ الآية قال بعض أهل التأويل‏:‏ هذا تصوير لحالهم في الاحتجاب والبعد وإن كانوا في عين الجمع المطلق، والوقوف على الشيء غير الوقوف معه فإن الأول‏:‏ لا يكون إلا كرهاً والثاني‏:‏ يكون طوعاً ورغبة، فالواقف مع الله سبحانه بالتوحيد لا يوقف للحساب، وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏واصبر نَفْسَكَ مَعَ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُم بالغداة والعشى يُرِيدُونَ وَجْهَهُ‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 28‏]‏ ‏{‏مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مّن شَىْء‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 52‏]‏ ويثاب هذا بأنواع النعيم في الجنان كلها‏.‏ ومن وقف مع الغير بالشرك وقف على الرب تعالى وعذب بأنواع العذاب لأن الشرك ظلم عظيم‏.‏

ومن وقف مع الناسوت بمحبة الشهوات وقف على الملكوت وعذب بنيران الحرمان وسلط عليه زبانية الهيئات المظلمة وقرن بشياطين الأهواء المردية، ومن وقف مع الأفعال وقف على الجبروت وعذب بنار الطمع والرجاء ورد إلى مقام الملكوت، ومن وقف مع الصفات وقف على الذات وعذب بنار الشوق والهجران‏.‏ وليس هذا هو الوقوف عل الرب لأن فيه حجاب الأنية وفي الوقوف على الذات معرفة الرب الموصوف بصفات اللطف‏.‏ والمشرك موقوف أولاً على الرب فيحجب بالرد والطرد ‏{‏اخسئوا فِيهَا وَلاَ تُكَلّمُونِ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 108‏]‏ ثم على الجبروت فيطرد بالسخط واللعن ‏{‏وَلاَ يُكَلّمُهُمُ الله وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ القيامة‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 77‏]‏ ثم على الملكوت فيزجر بالغضب واللعن ‏{‏قِيلَ ادخلوا أبواب جَهَنَّمَ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 72‏]‏ ثم على النار يسجرون فيعذب بأنواع النيران أبداً فيكون وقفه على النار متأخراً عن وقفه على الرب تعالى معلولاً له كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ العذاب الشديد بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 70‏]‏ وأما الواقف مع الناسوت فيوقف للحساب على الملكوت ثم على النار‏.‏ وقد ينجو لعدم السخط وقد لا ينجو لوجوده‏.‏ والواقف مع الأفعال لا يوقف على النار أصلاً بل يحاسب ويدخل الجنة‏.‏ وأما الواقف مع الصفات فهو من الذين رضي الله تعالى عنهم ورضوا عنه انتهى‏.‏ فتأمل فيه ‏{‏قَدْ خَسِرَ الذين كَذَّبُواْ بِلِقَاء الله حتى إِذَا جَاءتْهُمُ الساعة بَغْتَةً‏}‏ وهي القيامة الصغرى أعني الموت‏.‏ حكي عن بعض الكبار أنه قيل له‏:‏ إن فلاناً مات فجأة فقال‏:‏ لا عجب إذ من لم يمت فجأة مرض فجأة فمات ‏{‏قَالُواْ يأَبَانَا ياحسرتنا على مَا فَرَّطْنَا فِيهَا‏}‏ أي في حق تلك الساعة بترك العمل النافع ‏{‏وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ على ظُهُورِهِمْ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 31‏]‏ تصوير لحالهم ‏{‏وَمَا الحياة الدنيا‏}‏ أي الحياة الحسية فإن المحسوس أدنى وأقرب من المعقول ‏{‏إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ‏}‏ لا أصل له ولا حقيقة سريع الفناء والانقضاء وللدار الآخرة‏}‏ أي عالم الروحانيات ‏{‏‏}‏ أي عالم الروحانيات ‏{‏خَيْرٌ لّلَّذِينَ يَتَّقُونَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 32‏]‏ وهم المتجردون عن ملابس الصفات البشرية واللذات البدنية ‏{‏قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ‏}‏ لمقتضى البشرية ‏{‏الذى يَقُولُونَ‏}‏ ما يقولون ‏{‏فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذّبُونَكَ‏}‏ في الحقيقة ‏{‏ولكن الظالمين بئايات الله‏}‏ التي تجلى بها ‏{‏يَجْحَدُونَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 33‏]‏ فهو سبحانه ينتقم منهم ‏{‏وَلَقَدْ كُذّبَتْ رُسُلٌ مّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ على مَا كُذّبُواْ وَأُوذُواْ حتى أتاهم نَصْرُنَا‏}‏ فتأس بهم وانتظر الغاية ‏{‏وَلاَ مُبَدّلَ لكلمات الله‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 34‏]‏ التي يتجلى بها لعباده فليطمئن قلبك ولا تكونن من الجاهلين الذين لا يطلعون على حكمة تفاوت الاستعدادات فتتأسف على احتجاب من احتجب وتكذيب من كذب‏.‏ والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏36‏]‏

‏{‏إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ ‏(‏36‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الذين يَسْمَعُونَ‏}‏ تقرير لما يفهمه الكلام السابق من أنهم لا يؤمنون‏.‏ والاستجابة بمعنى الإجابة، وكثيراً ما أجرى استفعل مجرى أفعل كاستخلص بمعنى أخلص واستوقد بمعنى أوقد إلى غير ذلك‏.‏ ومنه قول الغنوي‏:‏ وداع دعا يا من يجيب إلى الندا *** فلم يستجبه عند ذاك مجيب

ويدل على ذلك أنه قال مجيب ولم يقل مستجيب، ومنهم من فرق بين استجاب وأجاب بأن استجاب يدل على قبول، والمراد بالسماع الفرد الكامل وهو سماع الفهم والتدبر بجعل ما عداه كلا سماع أي إنما يجيب دعوتك إلى الإيمان الذين يسمعون ما يلقى إليهم سماع فهم وتدبر دون الموتى الذين هؤلاء منهم كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الموتى‏.‏‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 80‏]‏ ‏{‏والموتى‏}‏ أي الكفار كما قال الحسن، ورواه عنه غير واحد ‏{‏يَبْعَثُهُمُ الله‏}‏ من قبورهم إلى المحشر، وقيل‏:‏ بعثهم هدايتهم إلى الايمان وليس بشيء ‏{‏ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ‏}‏ للجزاء فحينئذ يسمعون، وأما قبل ذلك فلا سبيل إلى سماعهم لما أن على قلوبهم أكنة وفي آذانهم وقراً، وفي إطلاق الموتى على الكفار استعارة تبعية مبنية على تشبيه كفرهم وجهلهم بالموت كما قيل‏:‏ لا يعجبن الجهول بزيه *** فذاك ميت ثيابه كفن

وقيل‏:‏ الموتى على حقيقته، والكلام تمثيل لاختصاصه تعالى بالقدرة على توفيق أولئك الكفار للإيمان باختصاصه سبحانه بالقدرة على بعث الموتى الذين رمت عظامهم من القبور، وفيه إشارة إلى أنه صلى الله عليه وسلم لا يقدر على هدايتهم لأنها كبعث الموتى‏.‏ وتعقب بأنه على هذا ليس لقوله سبحانه ‏{‏ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ‏}‏ كبير دخل في التمثيل إلا أن يراد أنه إشارة إلى ما يترتب على الايمان من الآثار، وفي إعراب ‏(‏الموتى‏)‏ وجهان، أحدهما‏:‏ أنه مرفوع على الابتداء، والثاني‏:‏ أنه منصوب بفعل محذوف يفسره ما بعده واختاره أبو البقاء، ويفهم من كلام مجاهد أنه مرفوع بالعطف على الموصول، والجملة بعده في موضع الحال والظاهر خلافه‏.‏ وقرىء ‏{‏يَرْجِعُونَ‏}‏ على البناء للفاعل من رجع رجوعاً‏.‏ والمتواترة أوفى بحق المقام لإنبائها عن كون مرجعهم إليه تعالى بطريق الاضطرار‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏37‏]‏

‏{‏وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آَيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آَيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏37‏)‏‏}‏

‏{‏وَقَالُواْ‏}‏ أي رؤساء قريش الذين بلغ بهم الجهل والضلال إلى حيث لم يقنعوا بما شاهدوه من الآيات التي تخر لها صم الجبال ولم يعتدوا به ‏{‏لَوْلاَ‏}‏ أي هلا ‏{‏نَزَّلَ‏}‏ أي أنزل ‏{‏عَلَيْهِ ءايَةٌ مّن رَّبّهِ‏}‏ ملجئة للإيمان ‏{‏قُلْ‏}‏ يا محمد ‏{‏إِنَّ الله قَادِرٌ على أَن يُنَزّلٍ ءايَةً‏}‏ من الآيات الملجئة ‏{‏ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ‏}‏ فلا يدرون أن عدم تنزيلها مع ظهور قدرته سبحانه وتعالى عليه لما أن في تنزيلها قلعاً لأساس التكليف المبني على قاعدة الاختيار أو استئصالاً لهم بالكلية إذ ذلك من لوازم جحد الآية الملجئة وجوز أن لا يكونوا قد طلبوا الملجيء ولا يلزم من عدم الاعتداد بالمشاهد طلبه بل يجوز أن يكونوا قد طلبوا غير الحاصل مما لا يلجىء لجاجاً وعناداً، ويكون الجواب بالملجىء حينئذ من أسلوب الحكيم أو يكون جواباً بما يستلزم مطلوبهم بطريق أقوى وهو أبلغ‏.‏ و‏(‏ من‏)‏ لابتداء الغاية‏.‏ والجار والمجرور يجوز أن يكون متعلقاً بنزل، وأن يكون متعلقاً بمحذوف وقع صفة لآية‏.‏ وما يفيده التعرض لعنوان ربوبيته تعالى له عليه الصلاة والسلام من الإشعار بالعلية إنما هو بطريق التعريض بالتهكم من جهتهم‏.‏ والاقتصار في الجواب على بيان قدرته سبحانه وتعالى على التنزيل مع أنها ليست في حيز الإنكار للإيذان بأن عدم تنزيله تعالى للآية مع قدرته عليه بحكمة بالغة يجب معرفتها وهم عنها غافلون كما ينبىء عنه الاستدراك، وإظهار الاسم الجليل لتربية المهابة مع الإشعار بالعلية، ومفعول ‏{‏يَعْلَمُونَ‏}‏ إما مطروح بالكلية على معنى أنهم ليسوا من أهل العلم أو محذوف مدلول عليه بقرينة المقام أي لا يعلمون شيئاً‏.‏ وتخصيص عدم العلم بأكثرهم لما أن بعضهم واقفون على حقيقة الحال وإنما يفعلون ما يفعلون مكابرة وعناداً‏.‏ وقرأ ابن كثير ‏{‏يُنَزّلٍ‏}‏ بالتخفيف، والمعنى هنا كما قيل واحد لأنه لم ينظر إلى التدريج وعدمه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏38‏]‏

‏{‏وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ ‏(‏38‏)‏‏}‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا مِن دَابَّةٍ فِى الارض‏}‏ كلام مستأنف مسوق كما قال الطبرسي وغيره لبيان كمال قدرته عز وجل وحسن تدبيره وحكمته وشمول علمه سبحانه وتعالى فهو كالدليل على أنه تعالى قادر على الإنزال وإنما لا ينزل محافظة على الحكم الباهرة، وقيل‏:‏ إنه دليل على أنه سبحانه وتعالى قادر على البعث والحشر، والأول أنسب، وزيدت ‏{‏مِنْ‏}‏ تنصيصاً على الاستغراق‏.‏ والدابة ما يدب من الحيوان، وأصله من دب يَدِب ‏(‏دبَّاً و‏)‏ دبيباً إذا مشى مشياً فيه تقارب خطو، والجار والمجرور متعلق بمحذوف أو مجرور أو مرفوع وقع صفة لدابة، ووصفت بذلك لزيادة التعميم كأنه قيل‏:‏ وما من فرد من أفراد الدواب يستقر في قطر من أقطار الأرض وجهها أو جوفها، وكذا الوصف في قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ‏}‏ لزيادة التعميم أيضاً أي ولا فرد من أفراد الطير يطير في ناحية من نواحي الجو بجناحيه، وقيل‏:‏ إنه لقطع مجاز السرعة فقد استعمل الطيران في ذلك كقوله‏:‏ قوم إذ الشر أبدى ناجذيه لهم *** طاروا إليه زرافات وحدانا

وكذا استعمل الطائر في العمل والنصيب مجازاً كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَكُلَّ إنسان ألزمناه طَئِرَهُ فِى عُنُقِهِ‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 13‏]‏‏.‏ واحتمال التجوز مع ذلك بجعله ترشيحاً للمجاز بعيد لا يلتفت إليه بدون قرينة، واختار بعض المتأخرين أن وجه الوصف تصوير تلك الهيئة الغريبة الدالة على كمال القوة والقدرة‏.‏ وأورد على الوجهين السابقين أنه لو قيل‏:‏ ولا طائر في السماء لكان أخصر وفي إفادة ذينك الأمرين أظهر مع ما فيه من رعاية المناسبة بين القرينتين يذكر جهة العلو في إحداهما وجهة السفل في الأخرى، ورد كما قال الشهاب بأنه لو قيل‏:‏ في السماء يطير بجناحيه لم يشمل أكثر الطيور لعدم استقرارها في السماء، ثم إن قصد التصوير لا ينافي قطع المجاز إذ لا مانع من إرادتهما جميعاً كما لا يخفى، ثم لما كان المقصود من ذكر هذين الأمرين الدلالة على كمال قدرته جل وعلا ببيان ما يعرفونه ويشاهدونه من هذين الجنسين وشمول قدرته وعلمه سبحانه لهما كان غيرهما غير مقصود بالبيان، فالاعتراض بأن أمثال حيتان البحر خارجة عنهما، والجواب بأنها داخلة في القسم الأول لأن الأرض فيه بمعنى جهة السفل مما لا يلتفت إليه، وقرأ ابن أبي عبلة ‏{‏وَلاَ طَائِرٍ‏}‏ بالرفع عطف على محل الجار والمجرور كأنه قيل‏:‏ وما دابة ولا طائر‏.‏

‏{‏إِلاَّ أُمَمٌ‏}‏ أي طوائف متخالفة ‏{‏أمثالكم‏}‏ في أن أحوالها محفوظة وأمورها ‏(‏معنية‏)‏ ومصالحها مرعية جارية على سنن السداد منتظمة في سلك التقديرات الإلهية والتدبيرات الربانية، وجمع الأمم باعتبار الحمل على معنى الجمعية المستفاد من العموم كما اختاره غير واحد، وهو يقتضي جواز أن يقال‏:‏ لا رجل قائمون، والقياس كما قيل لا يأباه إلا أنه لم يرد إلا مع الفصل‏.‏

وصرح السيد السند بأن النكرة ههنا محمولة على المجموع من حيث هو مجموع، وجعل مراده أن النكرة المذكورة من حيث الإخبار عنها محمولة على المجموع لا أنه مراد منها، فلا يرد أن الحكم بقوله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏إِلاَّ أُمَمٌ‏}‏ يأبى أن يكون التنكير فيما سبق على ما أشير إليه للفردية لأن الفرد ليس بجماعة، وكذا يأبى أن يكون للنوعية أيضاً لأن الفرد ليس بجماعات وهو ظاهر، وأما ما قيل‏:‏ إن النوع يشتمل على أصناف وكل صنف أمة أو الأمة كل جماعة في زمان فيدفعه توصيف أمم بأمثالكم إذ الخطاب بكم لأفراد نوع الإنسان فالمناسب تشبيه النوع بالنوع في كونهما محفوظي الأحوال لا تشبيه الصنف بالنوع أو تشبيه جماعة في وقت بالنوع، نعم قال السكاكي في «المفتاح»‏:‏ إن ذكر ‏{‏فِى الارض‏}‏ مع دابة و‏{‏يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ‏}‏ مع طائر لبيان أن القصد من لفظ دابة ولفظ طائر إنما هو إلى الجنسين وإلى تقريرهما، وعليه لا إشكال في صحة الحمل لاشتمال كل من الجنسين على أنواع كثيرة كل منها أمة كالأنسان فكأنه قيل‏:‏ ما من جنس من هذين الجنسين إلا أمم الخ، وهذا كما يقال‏:‏ ما من رجل من هذين الرجلين إلا كذا، ومراده أن لفظ دابة وطائر حامل لمعنى الجنس والوحدة فلبيان أن القصد من كل منهما إلى الجنس من حيث هو دون الوحدة والكثرة وصف بصفة لازمة للجنس من حيث هو أي بلا شرط شيء منهما والاستغراق المستفاد من كلمة ‏(‏من‏)‏ بالنظر إلى الجنسين، وبهذا يندفع القول بوجوب تأويل كلام السكاكي وإرجاعه إلى ما ذكره الزمخشري في هذا المقام، وعليه لا يتصور كون الوصف مفيداً لزيادة التعميم والإحاطة لأن الجنس من حيث هو أي لا بشرط شيء مفهوم واحد كما لا يخفى‏.‏ واعترض أيضاً القول بالعموم بأنه كيف يصح مع وجوب خروج المشبه به عنه‏.‏ وأجيب بأن القصد أولاً‏:‏ إلى العام والمشبه به في حكم المستثنى بقرينة التشبيه كأنه قيل‏:‏ ما من واحد من أفراد هذين الجنسين بعمومهما سواكم إلا أمم أمثالكم، ولك أن تدعي دخول كل فرد من أفراد المخاطبين بالتزام أن له اعتبارين اعتبار أنه مشبه واعتبار أنه مشبه به فتأمل جميع ذلك‏.‏

‏{‏مَّا فَرَّطْنَا فِى الكتاب مِن شَىْء‏}‏ التفريط التقصير، وأصله أن يتعدى بفي وقد ضمن هنا معنى أغفلنا وتركنا، فمن شيء في موضع المفعول به ومن زائدة لاستغراق، ويبعد جعلها تبعيضية أي ما فرطنا في الكتاب بعض شيء وإن جوزه بعضهم، والمراد من الكتاب القرآن واختاره البلخي وجماعة فإنه ذكر فيه جميع ما يحتاج إليه من أمر الدين والدنيا بل وغير ذلك إما مفصلاً وإما مجملاً، فعن الشافعي عليه الرحمة ليست تنزل بأحد في الدين نازلة إلا في كتاب الله تعالى الهدي فيها‏.‏

وروى البخاري عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أنه قال‏:‏ «لعن الله تعالى الواشمات والمتوشمات والمتنمصات والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله تعالى فقالت له امرأة في ذلك فقال‏:‏ ما لي لا ألعن من لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في كتاب الله تعالى فقالت له‏:‏ قرأت ما بين اللوحين فما وجدت فيه ما تقول قال‏:‏ لئن كنت قرأتيه لقد وجدتيه أما قرأت ‏{‏وَمَا ءاتاكم الرسول فَخُذُوهُ وَمَا نهاكم عَنْهُ فانتهوا‏}‏ ‏[‏الحشر‏:‏ 7‏]‏ قالت‏:‏ بلى قال‏:‏ فإنه عليه الصلاة والسلام قد نهى عنه» وقال الشافعي رحمه الله تعالى مرة بمكة‏:‏ سلوني عما شئتم أخبركم عنه من كتاب الله تعالى فقيل له‏:‏ ما تقول في المحرم يقتل الزنبور‏؟‏ فأجاب بأنه يقتله واستدل عليه بنحو استدلال ابن مسعود رضي الله تعالى عنه‏.‏

وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه أنه قال‏:‏ أنزل في هذا القرآن كل علم وبين لنا فيه كل شيء ولكن علمنا يقصر عما بين لنا في القرآن‏.‏ وأخرج أبو الشيخ في كتاب «العظمة» عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ إن الله سبحانه وتعالى لو أغفل شيئاً لأغفل الذرة والخردلة والبعوضة ‏"‏ وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما‏:‏ لو ضاع لي عقال بعير لوجدته في كتاب الله تعالى، وقال المرسي‏:‏ جمع القرآن علوم الأولين والآخرين بحيث لم يحط بها علماً حقيقة إلا المتكلم به ثم رسول الله صلى الله عليه وسلم خلا ما استأثر الله تعالى به، وقد سمعت من بعضهم والعهدة عليه أن الشيخ الأكبر محيي الدين بن العربي قدس الله تعالى سره وقع يوماً عن حماره فرضت رجله فجاؤوا ليحملوه فقال‏:‏ امهلوني فأمهلوه يسيراً ثم أذن لهم فحملوه فقيل له في ذلك فقال‏:‏ راجعت كتاب الله تعالى فوجدت خبر هذه الحادثة قد ذكر في الفاتحة، وهذا أمر لا تصله عقولنا‏.‏ ومثله استخراج بعضهم من الفاتحة أيضاً أسماء سلاطين آل عثمان وأحوالهم ومدة سلطنتهم إلى ما شاء الله تعالى من الزمان، ولا بدع فهي أم الكتاب وتلد كل أمر عجيب، وعلى هذا لا حاجة إلى القول بتخصيص الشيء بما يحتاج إليه من دلائل التوحيد والتكاليف، وقال أبو البقاء‏:‏ إن شيئاً هنا واقع موقع المصدر أي تفريطاً، ولا يجوز أن يكون مفعولاً به لأن ‏{‏فَرَّطْنَا‏}‏ لا تتعدى بنفسها بل بحرف الجر وقد عديت بفي إلى الكتاب فلا تتعدى بحرف آخر وتبعه في ذلك غير واحد، وجعلوا ما يفهم من «القاموس» من تعدي هذا الفعل بنفسه حيث قال‏:‏ «فَرَّط الشيء وفَرَّط فيه تفريطاً ضيَّعه وقدم العجز فيه وقَصَّر» مما تفرد به في مقابلة من هو أطول باعاً منه مع أنه يحتمل أن تعديته المذكورة فيه ليست وضيعة بل مجازية أو بطريق التضمين الذي أشير إليه سابقاً، وعلى هذا لا يبقى كما قال أبو البقاء في الآية حجة لمن ظن أن الكتاب يحتوي على ذكر كل شيء، والكلام حينئذٍ نظير قوله تعالى‏:‏

‏{‏لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 120‏]‏ أي ضيراً‏.‏ وأورد عليه أنه ليس كما ذكر لأنه إذا تسلط النفي على المصدر كان منفياً على جهة العموم ويلزمه نفي أنواع المصدر وهو يستلزم نفي جميع أفراده وليس بشيء لأنه يريد أن المعنى حينئذٍ أن جميع أنواع التفريط منفية عن القرآن وهو مما لا شبهة فيه ولا يلزمه أن يذكر فيه كل شيء كما لزم على الوجه الآخر، وأياً ما كان فالجملة إعتراضية مقررة لمضمون ما قبلها فإن من جملة الأشياء أنه تعالى مراع لمصالح جميع مخلوقاته على ما ينبغي، وعن الحسن وقتادة أن المراد بالكتاب الكتاب الذي عند الله تعالى وهو مشتمل على ما كان ويكون وهو اللوح المحفوظ، والمراد بالاعتراض حينئذٍ الإشارة إلى أن أحوال الأمم مستقصاة هناك غير مقصورة على هذا القدر المجمل، وعن أبي مسلم أن المراد منه الأجل أي ما من شيء إلا وقد جعلنا له أجلاً هو بالغه ولا يخفى بعده‏.‏ وقرأ علقمة ‏{‏مَّا فَرَّطْنَا‏}‏ بالتخفيف وهو والمشدد بمعنى‏.‏ وقال أبو العباس‏:‏ معنى فرطنا المخفف أخرنا كما قالوا فرط الله تعالى عنك المرض أي أزاله‏.‏

‏{‏ثُمَّ إلى رَبّهِمْ يُحْشَرُونَ‏}‏ الضمير للأمم المذكورة في ‏(‏الكريم‏)‏، وصيغة جمع العقلاء لإجرائها مجراهم والتعبير عنها بالأمم، وقيل‏:‏ هو للأمم مطلقاً وتكون صيغة الجمع للتغليب أي إلى مالك أمورهم لا إلى غيره يحشرون يوم القيامة فيجازيهم وينصف بعضهم من بعض حتى أنه سبحانه وتعالى يبلغ من عدله أن يأخذ للجماء من القرناء كما جاء في حديث صحيح رواه الشيخان‏.‏ وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن حشر الحيوانات موتها، ومراده رضي الله تعالى عنه على ما قيل إن قوله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏إلى رَبّهِمْ يُحْشَرُونَ‏}‏ مجموعه مستعار على سبيل التمثيل للموت كما ورد في الحديث ‏"‏ من مات فقد قامت قيامته ‏"‏ فلا يرد عليه أن الحشر بعث من مكان إلى آخر، وتعديته بإلى تنصيص على أنه لم يرد به الموت مع أن في الموت أيضاً نقلاً من الدنيا إلى الآخرة، نعم ما ذكره الجماعة أوفق بمقام تهويل الخطب وتفظيع الحال، هذا وفي «رسالة المعاد» لأبي علي‏:‏ قال المعترفون بالشريعة من أهل التناسخ‏:‏ إن هذه الآية دليل عليه لأنه سبحانه قال‏:‏ ‏{‏وَمَا مِن دَابَّةٍ‏}‏ الخ، وفيه الحكم بأن الحيوانات الغير الناطقة أمثالنا وليسوا أمثالنا بالفعل فيتعين كونهم أمثالنا بالقوة لضرورة صدق هذا الحكم وعدم الواسطة بين الفعل والقوة، وحينئذٍ لا بد من القول بحلول النفس الإنسانية في شيء من تلك الحيوانات وهو التناسخ المطلوب‏.‏

ولا يخفى أنه دليل كاسد على مذهب فاسد، ومن الناس من جعلها دليلاً على أن للحيوانات بأسرها نفوساً ناطقة كما لأفراد الإنسان، وإليه ذهب الصوفية وبعض الحكماء الإسلاميين‏.‏ وأورد الشعراني في «الجواهر والدرر» لذلك أدلة غير ما ذكر، منها أنه صلى الله عليه وسلم لما هاجر وتعرض كل من الأنصار لزمام ناقته قال عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏"‏ دعوها فإنها مأمورة ‏"‏ ووجه الاستدلال بذلك أنه صلى الله عليه وسلم أخبر أن الناقة مأمورة ولا يعقل الأمر إلا من له نفس ناطقة، وإذا ثبت أن للناقة نفساً كذلك ثبت للغير إذ لا قائل بالفرق، ومنها ما يشاهد في النحل وصنعتها أقراص الشمع والعناكب واحتيالها لصيد الذباب والنمل وادخاره لقوته على وجه لا يفسد معه ما ادخره‏.‏ وأورد بعضهم دليلاً لذلك أيضاً النملة التي كلمت سليمان عليه الصلاة والسلام بما قص الله تعالى لنا عنها مما لا يهتدي إلى ما فيه إلا العالمون؛ وخوف الشاة من ذئب لم تشاهد فعله قبل فإن ذلك لا يكون إلا عن استدلال وهو شأن ذوي النفوس الناطقة، وعدم افتراس الأسد المعلم مثلاً صاحبه فإن ذلك دليل على اعتقاده النفع ومعرفة الحسن وهو من شأن ذوي النفوس‏.‏ وأغرب من هذا دعوى الصوفية‏.‏ ونقله الشعراني عن شيخه عليّ الخواص قدس الله تعالى سره أن الحيوانات مخاطبة مكلفة من عند الله تعالى من حيث لا يشعر المحجوبون ثم قال‏:‏ ويؤيده قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِن مّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 24‏]‏ حيث نكر سبحانه وتعالى الأمة والنذير وهم من جملة الأمم‏.‏

ونقل عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه كان يقول‏:‏ جميع ما في الأمم فينا حتى إن فيهم ابن عباس مثلي‏.‏ وذكر في «الأجوبة المرضية» أن فيهم أنبياء‏.‏ وفي «الجواهر» أنه يجوز أن يكون النذير من أنفسهم وأن يكون خارجاً عنهم من جنسهم‏.‏ وحكى شيخه عن بعضهم أنه قال‏:‏ إن تشبيه الله تعالى من ضل من عباده بالأنعام في قوله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏إِنْ هُمْ إِلاَّ كالانعام‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 44‏]‏ ليس لنقص فيها وإنما هو لبيان كمال مرتبتها في العلم بالله تعالى حتى حارت فيه فالتشبيه في الحقيقة واقع في الحيرة لا في المحار فيه فلا أشد حيرة من العلماء بالله تعالى فاعلى ما يصل إليه العلماء بربهم سبحانه وتعالى هو مبتدأ البهائم الذي لم تنتقل عنه أي عن أصله وإن كانت منتقلة في شؤونه بتنقل الشؤون الإلهية لأنها لا تثبت على حال‏.‏

ولذلك كان من وصفهم الله عز وجل من هؤلاء القوم أضل سبيلاً من الأنعام لأنهم يريدون الخروج من الحيرة من طريق فكرهم ونظرهم ولا يمكن ذلك لهم والبهائم علمت ذلك ووقفت عنده ولم تطلب الخروج عنه وذلك لشدة علمها بالله تعالى اه‏.‏

ونقل الشهاب عن ابن المنير أن من ذهب إلى أن البهائم والهوام مكلفة لها رسل من جنسها فهو من الملاحدة الذين لا يعول عليهم كالجاحظ وغيره، وعلى إكفار القائل بذلك نص كثير من الفقهاء والجزاء الذي يكون يوم القيامة للحيوانات عندهم ليس جزاء تكليف، على أن بعضهم ذهب إلى أن الحيوانات لا تحشر يوم القيامة وأول الظواهر الدالة على ذلك‏.‏ وما نقل عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لا أصل له‏.‏

والمثلية في الآية لا تدل على شيء مما ذكر‏.‏ وأغرب الغريب عند أهل الظاهر أن الصوفية قدس الله تعالى أسرارهم جعلوا كل شيء في الوجود حياً دراكاً يفهم الخطاب ويتألم كما يتألم الحيوان وما يزيد الحيوان على الجماد إلا بالشهوة، ويستندون في ذلك إلى الشهود‏.‏ وربما يستدلون بقوله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏وَإِن مّن شَىْء إِلاَّ يُسَبّحُ بِحَمْدَهِ ولكن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ‏}‏ ‏(‏الإسراء؛ 44‏)‏ وبنحو ذلك من الآيات والأخبار‏.‏ والذي ذهب إليه الأكثرون من العلماء أن التسبيح حالي لا قالي، ونظير ذلك‏:‏ شكى إلي جملي طول السرى *** و‏:‏ امتلأ الحوض وقال قطني

وما يصدر عن بعض الجمادات من تسبيح قالي كتسبيح الحصى في كفه الشريف صلى الله عليه وسلم مثلاً إنما هو عن خلق إدراك إذ ذاك، وما يشاهد من الصنائع العجيبة لبعض الحيوانات ليس كما قال الشيخ الرئيس مما يصدر عن استنباط وقياس بل عن إلهام وتسخير، ولذلك لا تختلف ولا تتنوع، والنقض بالحركة الفلكية لا يرد بناءً على قواعدنا‏.‏ وعدم افتراس الأسد المعلم مثلاً صاحبه ليس عن اعتقاد بل هناك هيئة أخرى نفسانية وهي أن كل حيوان يحب بالطبع ما يلذه والشخص الذي يطعمه محبوب عنده فيصير ذلك مانعاً عن افتراسه‏.‏ وربما يقع هذا العارض عن إلهام إلهي مثل حب كل حيوان ولده‏.‏ وعلى هذا الطرز يخرج الخوف مثلاً الذي يعتري بعض الحيوانات‏.‏

وقد أطالوا الكلام في هذا المقام، وأنا لا أرى مانعاً من القول بأن للحيوانات نفوساً ناطقة وهي متفاوتة الإدراك حسب تفاوتها في أفراد الإنسان وهي مع ذلك كيفما كانت لا تصل في إدراكها وتصرفها إلى غاية يصلها الإنسان والشواهد على هذا كثيرة وليس في مقابلتها قطعي يجب تأويلها لأجله‏.‏ وقد صرح غير واحد أنها عارفة بربها جل شأنه، وأما إن لها رسلاً من جنسها فلا أقول به ولا أفتي بكفر من قال به‏.‏ وأما أن الجمادات حية مدركة فأمر وراء طور عقلي، والله تعالى على كل شيء قدير وهو العليم الخبير‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏39‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ‏(‏39‏)‏‏}‏

‏{‏والذين كَذَّبُواْ بئاياتنا‏}‏ أي القرآن أو سائر الحجج ويدخل دخولاً أولياً، والموصول عبارة عن المعهودين في قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 25‏]‏ الخ أو الأعم من أولئك، والكلام متعلق بقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏مَّا فَرَّطْنَا‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 38‏]‏ الخ أو بقوله جل شأنه ‏{‏إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الذين يَسْمَعُونَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 36‏]‏ والواو للاستئناف وما بعدها مبتدأ خبره ‏{‏صُمٌّ وَبُكْمٌ‏}‏ وجوز أن يكون هذا خبر مبتدأ محذوف أي بعضهم صم وبعضهم بكم‏.‏ والجملة خبر المبتدأ والأول أولى، وهو من التشبيه البليغ على القول الأصح في أمثاله أي أنهم كالصم وكالبكم فلا يسمعون الآيات سماعاً تتأثر منه نفوسهم ولا يقدرون على أن ينطقوا بالحق ولذلك لا يستجيبون ويقولون في الآيات ما يقولون‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فِى الظلمات‏}‏ أي في ظلمات الكفر وأنواعه أو في ظلمة الجهل وظلمة العناد وظلمة التقليد في الباطل إما خبر بعد خبر للموصول على أنه واقع موقع ‏(‏عمي‏}‏‏)‏ كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏‏}‏‏)‏ كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏صُمٌّ بُكْمٌ عُمْىٌ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 18، 171‏]‏ ووجه ترك العطف فيه دون ما تقدمه الإيماء إلى أنه وحده كاف في الذم والإعراض عن الحق، واختير العطف فيما تقدم للتلازم، وقد يترك رعاية لنكتة أخرى وإما متعلق بمحذوف وقع حالاً من المستكن في الخبر كأنه قيل‏:‏ ضالون خابطين أو كائنين في الظلمات‏.‏ ورجحت الحالية بأنها أبلغ إذ يفهم حينئذٍ أن صممهم وبكمهم مقيد بحال كونهم في ظلمات الكفر أو الجهل وأخويه حتى لو أخرجوا منها لسمعوا ونطقوا، وعليها لا يحتاج إلى بيان وجه ترك العطف‏.‏ وجوز أبو البقاء أن يكون خبر مبتدأ محذوف أي هم في الظلمات؛ وأن يكون صفة لبكم أو ظرفاً له أو لصم أو لما ينوب عنهما من الفعل، وعن أبي علي الجبائي أن المراد بالظلمات ظلمات الآخرة على الحقيقة أي أنهم كذلك يوم القيامة عقاباً لهم على كفرهم في الدنيا‏.‏ والكلام عليه متعلق بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثُمَّ إلى رَبّهِمْ يُحْشَرُونَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 38‏]‏ على أن الضمير للأمم على الإطلاق وفيه بعد‏.‏ وقوله سبحانه‏:‏

‏{‏مَن يَشَإِ الله يُضْلِلْهُ‏}‏ تحقيق للحق وتقرير لما سبق من حالهم ببيان أنهم من أهل الطبع لا يتأتى منهم الإيمان أصلاً فمن مبتدأ خبره ما بعده ومفعول ‏(‏يشأ‏)‏ محذوف أي إضلاله‏.‏ ولا يجوز أن يكون ‏(‏من‏)‏ مفعولاً مقدماً له لفساد المعنى، والمراد من يرد سبحانه أن يخلق فيه الضلال عن الحق يخلقه فيه حسب اختياره الناشىء عن استعداده، وجوز بعضهم أن يكون ‏{‏مِنْ‏}‏ في موضع نصب بفعل مقدر بعده يفسره ما بعده أي من يشق أو يعذب يشأ إضلاله‏.‏

‏{‏وَمَن يَشَأْ يَجْعَلْهُ على صراط مُّسْتَقِيمٍ‏}‏ عطف على ما تقدم، والكلام فيه كالكلام فيه، والآية دليل لأهل السنة على أن الكفر والإيمان بإرادته سبحانه وأن الإرادة لا تتخلف عن المراد‏.‏

والزمخشري لما رأى تخرق عقيدته الفاسدة رام رقعها كما هو دأبه فقال‏:‏ «معنى ‏{‏يُضْلِلْهُ‏}‏ يخذله ولم يلطف به و‏{‏يَجْعَلُهُ‏}‏ الخ يلطف به»، وقال غيره‏:‏ المراد من يشأ إضلاله يوم القيامة عن طريق الجنة يضلله ومن يشأ يجعله على الصراط الذي يسلكه المؤمنون إلى الجنة وهو كما ترى‏.‏ وكان الظاهر على ما قيل‏:‏ أن يقال ومن يشأ يهده إلا أنه عدل عنه لأن هدايته تعالى وهي إرشاده إلى الهدى غير مختصة ببعض دون بعض‏.‏ ولهذا قيل في تفسير ‏{‏يَجْعَلُهُ‏}‏ الخ أي يرشده إلى الهدى ويحمله عليه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏40‏]‏

‏{‏قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏40‏)‏‏}‏

‏{‏قُلْ أَرَأَيْتُكُم‏}‏ أمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يبكتهم ويلقمهم الحجر بما لا سبيل لهم إلى إنكاره‏.‏ والتاء على ما قاله أبو البقاء ضمير الفاعل وما بعده حرف خطاب جىء به للتأكيد وليس اسماً لأنه لو كان كذلك لكان إما مجروراً ولا جار هنا أو مرفوعاً وليس من ضمائر الرفع ولا مقتضى له أيضاً أو منصوباً وهو باطل لثلاثة أوجه، الأول‏:‏ أن هذا الفعل قلبي بمعنى علم يتعدى إلى مفعولين كقولك‏:‏ أرأيت زيداً ما فعل فلو جعل المذكور مفعولاً لكان ثالثاً‏.‏ والثاني‏:‏ أنه لو جعل مفعولاً لكان هو الفاعل في المعنى وليس المعنى على ذلك إذ ليس الغرض أرأيت نفسك بل أرأيت غيرك ولذلك قلت‏:‏ أرأيتك زيداً وزيد غير المخاطب ولا هو بدل منه‏.‏ والثالث‏:‏ أنه لو جعل كذلك لظهرت علامة التثنية والجمع والتأنيث في التاء فكنت تقول‏:‏ أرأيتماكما وأرأيتموكم وأرأيتكن وهذا مذهب البصريين‏.‏

والمفعولان في هذه الآية قيل‏:‏ الأول‏:‏ منهما محذوف تقديره أرأيتكم إياه أو إياها أي العذاب أو الساعة الواقعين في قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏إِنْ أتاكم عَذَابُ الله‏}‏ أي الدنيوي حسبما أتى من قبلكم ‏{‏أَوْ أَتَتْكُمْ الساعة‏}‏ أي هو لها كما يدل عليه ما بعد لأن الكلام من باب التنازع حيث تنازع رأي وأتى في معمول واحد وهو ‏{‏عَذَابُ الله‏}‏ و‏{‏الساعة‏}‏ فأعمل الثاني وأضمر في الأول‏.‏ والثاني‏:‏ منهما جملة الاستفهام وهي قوله تعالى ‏{‏أَغَيْرَ الله تَدْعُونَ‏}‏ والرابط لها بالمفعول الأول محذوف أي أغير الله تدعون لكشف ذلك‏.‏ وقيل‏:‏ لا تنازع والتقدير أرأيتكم عبادتكم للأصنام أو الأصنام التي تعبدونها هل تنفعكم، وقيل‏:‏ إن الجملة الاستفهامية سادة مسد المفعولين‏.‏

وذهب الرضي تبعاً لغيره أن رأى هنا بصرية وقيل‏:‏ قلبية بمعنى عرف‏.‏ وهي على القولين متعدية لواحد وأصل اللفظ الاستفهام عن العلم أو العرفان أو الإبصار إلا أنه تجوز به عن معنى أخبرني ولا يستعمل إلا في الاستخبار عن حالة عجيبة لشيء‏.‏ وفيه على ما قال الكرماني وغيره تجوزان إطلاق الرؤية وإرادة الإخبار لأن الرؤية بأي معنى كانت سبب له‏.‏ وجعل الاستفهام بمعنى الأمر بجامع الطلب‏.‏ وقول بعضهم‏:‏ إن الاستفهام للتعجيب لا ينافي كون ذلك بمعنى أخبرني لما قيل أنه بالنظر إلى أصل الكلام‏.‏

ونقل عن أبي حيان أن الأخفش قال‏:‏ إن العرب أخرجت هذا اللفظ عن معناه بالكلية فقالوا‏:‏ أرأيتك وأريتك بحذف الهمزة الثانية إذا كان بمعنى أخبرت وإذا كان بمعنى أبصرت لم تحذف همزته وألزمته أيضاً الخطاب على هذا المعنى فلا تقول أبداً أراني زيد عمراً ما صنع وتقول هذا على معنى أعلم، وأخرجته أيضاً عن موضوعه بالكلية لمعنى إما بدليل دخول الفاء بعده كقوله تعالى‏:‏

‏{‏أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصخرة‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 63‏]‏ الآية‏.‏ فما دخلت الفاء إلا وقد خرجت لمعنى أما‏.‏ والمعنى أما إذ أوينا إلى الصخرة فالأمر كذا وكذا‏.‏ وقد أخرجته أيضاً إلى معنى أخبرني كما قدمنا، وإذا كان بهذا المعنى فلا بد بعده من اسم المستخبر عنه وتلزم الجملة بعد الاستفهام‏.‏ وقد يخرج لهذا المعنى وبعده الشرط وظرف الزمان اه ولم يوافق في جميع ذلك‏.‏

وذهب شيخ أهل الكوفة الكسائي إلى أن التاء ضمير الفاعل وأداة الخطاب اللاحقة في موضع المفعول الأول‏.‏ وذهب الفراء إلى أن التاء حرف خطاب واللواحق بعده في موضع الرفع على الفاعلية وهي ضمائر نصب استعملت استعمال ضمائر الرفع‏.‏ والكلام على ذلك مبسوط في محله‏.‏ والمختار عند كثير من المحققين ما ذهب إليه البصريون من جعل كم هنا وكذا سائر اللواحق حرف خطاب ومتعلق الاستخبار عندهم ومحط التبكيت قوله تعالى‏.‏ ‏{‏أَغَيْرَ الله‏}‏ الخ‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏إِن كُنتُمْ صادقين‏}‏ متعلق بأريتكم مؤكد للتبكيت كاشف عن كذبهم‏.‏ وجواب الشرط محذوف ثقة بدلالة المذكور عليه، والتقدير على ما قيل إن كنتم صادقين في أن أصنامكم آلهة ‏(‏أو أن عبادتكم لها نافعة‏)‏ أو إن كنتم قوماً من شأنكم الصدق فأخبروني أإلهاً غير الله تعالى تدعون إن أتاكم عذاب الله الخ فإن صدقهم من موجبات إخبارهم بدعائهم غيره سبحانه‏.‏ وقيل‏:‏ إن الجواب ما يدل عليه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَغَيْرَ الله تَدْعُونَ‏}‏ أعني فادعوه على أن الضمير لغير الله، واعترض بأنه يخل بجزالة النظم الكريم كيف لا والمطلوب منهم إنما هو الإخبار بدعائهم غيره جل شأنه عند ءتيان ما يأتي لا نفس دعائهم إياه، وجوز آخرون كون متعلق الاستخبار محذوفاً تقديره أخبروني إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة من تدعون، وجعلوا قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏أَغَيْرَ الله‏}‏ الخ استئنافاً للتبكيت على معنى أتخصون آلهتكم بالدعوة كما هو عادتكم إذا أصابكم ضر أم تدعون الله تعالى دونها، وعليه فتقديم المفعول للتخصيص‏.‏ وبعضهم جعل تقديمه لأن الإنكار متعلق به وأنكر تعلقه بالتخصيص‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏41‏]‏

‏{‏بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ ‏(‏41‏)‏‏}‏

نعم التقديم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏بَلْ إياه تَدْعُونَ‏}‏ للتخصيص أي بل تخصونه سبحانه بالدعاء وليس لرعاية الفواصل، والتخصيص مستفاد مما بعد وهو عطف على جملة منفية تفهم من الكلام السابق كأنه قيل‏:‏ لا غير الله تدعون بل إياه تدعون، وجعله في «الكشف» عطفاً على ‏{‏أَغَيْرَ الله تَدْعُونَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 4‏]‏ وأورد الزمخشري على كون ‏{‏أَغَيْرَ الله تَدْعُونَ‏}‏ متعلق الاستخبار أن قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ‏}‏ أي ما تدعونه إلى كشفه مع قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَوْ أَتَتْكُمْ الساعة‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 40‏]‏ يأباه فإن قوارع الساعة لا تكشف عن المشركين‏.‏ وأجاب بأنه قد اشترط في «الكشف» المشيئة بقوله جل شأنه‏:‏ ‏{‏إِن شَاء‏}‏ وهو عز وجل لا يشاء كشف هاتيك الفوارع عنهم، وخص الايراد بذلك الوجه على ما في «الكشف» لأن الشرطين فيه لما كانا متعلقين بقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏أَغَيْرَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 40‏]‏ الخ وكان ‏{‏بَلْ إياه‏}‏ الخ عطفاً عليه ضراباً عنه والمعطوف في حكم المعطوف عليه وجب أن يكونا متعلقين به أيضاً‏.‏ ولما كان الكشف مستعقب الدعاء مستفاداً عنه وجب أن يكونا متعلقين به أيضاً فجاء سؤال أن قوارع الساعة لا تكشف‏.‏ وأما في الوجه الآخر فلأن ‏{‏أَغَيْرَ‏}‏ الخ لما كان كلاماً مستقلاً لم يتعلق به الشرطان لفظاً بل جاز أن يقدرا أو هو الظاهر إن ساعد المعنى، وأن يقدر واحد منهما حسب استدعاء المقام وذلك أنه سبحانه بكتهم بما كانوا عليه من اختصاصهم إياه تعالى بالدعاء عند الكرب ألا ترى إلى قوله جل شأنه‏:‏ ‏{‏ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضر فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 53‏]‏ فلا مانع من ذكر أمرين والتقريع على أحدهما دون الآخر لا سيما عند اختصاصه بالتقريع انتهى‏.‏ وربما يقال‏:‏ إن كشف القوارع الدنيوية والأخروية بدعاء المؤمن أو المشرك بل قبول الدعاء مطلقاً مشروط بالمشيئة وبذلك تقيد آية ‏{‏ادعونى أَسْتَجِبْ لَكُمْ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 60‏]‏ ‏{‏وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الداع إِذَا دَعَانِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 186‏]‏ لكن انتفاء المشيئة متحقق في بعض الصور كما في قبول دعاء الكفار بكشف قوارع الساعة وما يلقونه من سوء الجزاء على كفرهم وكشف بعض الأهوال عنهم ككرب طول الوقوف حين يشفع صلى الله عليه وسلم فيشفع في الفصل بين الخلائق يومئذٍ ليس من باب استجابة دعائهم في شيء‏.‏

على أن كرب طول الوقوف الذي يفارقونه نعيم بالنسبة إلى ما يلاقونه بعد وإن لم يعلموا ذلك قبل فالقوارع محيطة بهم في ذلك اليوم لا تفارقهم أصلاً وإنما ينتقلون فيها من شديد إلى أشد، فقول بعضهم إثر قول الزمخشري‏:‏ فإن قوارع الساعة لا تكشف عن المشركين الأحسن عندي أن هول القيامة يكشف أيضاً ككرب الموقف إذا طال كما ورد في حديث الشفاعة العظمى إلا أن الزمخشري لم يذكره لأن المعتزلة قائلون بنفي الشفاعة وقد غفل عن هذا من اتبعه كلام خال عن التحقيق، والمعتزلة على ما في «مجمع البحار» لا ينفون الشفاعة في فصل القضاء وإنما ينكرون الشفاعة لأهل الكبائر والكفار في النجاة من النار‏.‏

هذا واختلف المفسرون في جواب الشرط الأول فقيل محذوف تقديره فمن تدعون، وقيل‏:‏ وعليه أبو البقاء تقديره دعوتم الله تعالى، وقيل‏:‏ إنه مذكور وهو أرأيتكم، وقيل‏:‏ ونسب للرضي هو الجملة المتضمنة للاستفهام بعده وهو كالمتعين على بعض الأقوال، ورده الدماميني بأن الجملة كذلك لا تقع جواباً للشرط بدون فاء‏.‏ وبحث في ذلك الشهاب في «حواشيه على شرح الكافية» للرضي‏.‏ وقال أبو حيان وتبعه غير واحد‏:‏ الذي أذهب إليه أن يكون الجواب محذوفاً لدلالة ‏{‏أَرَأَيْتُكُم‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 40‏]‏ عليه تقديره إن أتاكم عذاب الله تعالى فأخبروني عنه أتدعون غير الله تعالى لكشفه كما تقول‏:‏ أخبرني عن زيد إن جاءك ما تصنع به فإن التقدير إن جاءك فأخبرني فحذف الجواب لدلالة أخبرني عليه‏.‏ ونظير ذلك أنت ظالم إن فعلت انتهى فافهم ولا تغفل‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ‏}‏ عطف على ‏{‏تَدْعُونَ‏}‏ والنسيان مجاز عن الترك كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أي تتركون ما تشركون به تعالى من الأصنام تركاً كلياً، وقيل‏:‏ يحتمل أن يكون على حقيقته فإنهم لشدة الهول ينسون ذلك حقيقة، ولا يخطر لهم ببال ولا يلزم حينئذٍ أن ينسى الله تعالى لأن المعتاد في الشدائد أن يلهج بذكره تعالى وينسى ما سواه سبحانه، وقدم الكشف مع تأخره عن النسيان كتأخره عن الدعاء لإظهار كمال العناية بشأنه والإيذان بترتبه على الدعاء خاصة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏42‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ ‏(‏42‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَقَدْ أَرْسَلنَا إلى أُمَمٍ مّن قَبْلِكَ‏}‏ كلام مستأنف سيق لبيان أن من المشركين من لا يدعو الله تعالى عند إتيان العذاب لتماديه في الغي والضلال ولا يتأثر بالزواجر التكوينية كما لا يتأثر بالزواجر التنزيلية، وقيل‏:‏ مسوق لتسليته صلى الله عليه وسلم، وتصدير الجملة بالقسم لإظهار مزيد الاهتمام بمضمونها، والمفعول محذوف لأن مقتضى المقام بيان حال المرسل إليهم لا حال المرسلين؛ وتنوين ‏{‏أُمَمٌ‏}‏ للتكثير، و‏{‏مِنْ‏}‏ ابتدائية أو بمعنى في أو زائدة بناءً على جواز زيادتها في الإثبات وضعف أي تالله لقد أرسلنا رسلاً إلى أمم كثيرة كائنة من زمان أو في زمان قبل زمانك ‏{‏فأخذناهم‏}‏ أي فكذبوا فعاقبناهم ‏{‏بالبأساء والضراء‏}‏ أي البؤس والضر‏.‏ وأخرج أبو الشيخ عن ابن جبير أنه قال‏:‏ خوف السلطان وغلاء السعر‏.‏ وقيل‏:‏ البأساء القحط والجوع والضراء المرض ونقصان الأنفس والأموال وهما صيغتا تأنيث لا مذكر لهما على أفعل كأحمر حمراء كما هو القياس فإنه لم يقل أضر وأبأس صفة بل للتفضيل ‏{‏لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ‏}‏ أي لكي يتذللوا فيدعوا ويتوبوا من كفرهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏43‏]‏

‏{‏فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏43‏)‏‏}‏

‏{‏فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ‏}‏ أي فلم يتضرعوا حينئذٍ مع وجود المقتضي وانتفاء المانع الذي يعذرون به، ولولا عند الهروي تكون نافية حقيقة وجعل من ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ ءامَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 98‏]‏ والجمهور حملوه على التوبيخ والتنديم وهو يفيد الترك وعدم الوقوع ولذا ظهر الاستدراك والعطف في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولكن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ‏}‏ وليست لولا هنا تحضيضية كما تتوهم لأنها تختص بالمضارع، واختار بعضهم ما ذهب إليه الهروي‏.‏ ولما كان التضرع ناشئاً من لين القلب كان نفيه نفيه فكأنه قيل‏:‏ فما لانت قلوبهم ولكن قست، وقيل‏:‏ كان الظاهر أن يقال‏:‏ لكن يجب عليهم التضرع إلا أنه عدل إلى ما ذكر لأن قساوة القلب التي هي المانع يشعر بأن عليهم ما ذكر، ومعنى ‏{‏قَسَتْ‏}‏ الخ استمرت على ما هي عليه من القساوة أو ازدادت قساوة‏.‏

‏{‏وَزَيَّنَ لَهُمُ الشيطان مَا كَانُواّ يَعْمَلُونَ‏}‏ من الكفر والمعاصي فلم يخطروا ببالهم أن ما اعتراهم من البأساء والضراء ما اعتراهم إلا لأجله‏.‏ والتزيين له معان، أحدها‏:‏ إيجاد الشيء حسناً مزيناً في نفس الأمر كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏زَيَّنَّا السماء الدنيا‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 6‏]‏ والثاني‏:‏ جعله مزيناً من غير إيجاد كتزيين الماشطة العروس‏.‏ والثالث‏:‏ جعله محبوباً للنفس مشتهى وإن لم يكن في نفسه كذلك وهذا إما بمعنى خلق الميل في النفس والطبع وإما بمعنى تزويقه وترويجه بالقول وما يشبهه كالوسوسة والإغواء، وعلى هذا يبنى أمر إسناده فإنه جاء في النظم الكريم تارة مسنداً إلى الشيطان كما في هذه الآية وتارة إليه سبحانه كما في قوله سبحانه ‏{‏كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 108‏]‏ وتارة إلى البشر كقوله عز وجل‏:‏ ‏{‏زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مّنَ المشركين قَتْلَ أولادهم شُرَكَاؤُهُمْ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 137‏]‏ فإن كان بالمعنى الأول فإسناده إلى الله تعالى حقيقة، وكذا إذا كان بالمعنى الثالث بناءً على المراد منه أولاً، وإن كان بالمعنى الثاني أو الثالث بناءً على المراد منه ثانياً فإسناده إلى الشيطان أو البشر حقيقة، ولا يمكن إسناد ما يكون بالإغواء والوسوسة إليه سبحانه كذلك‏.‏ وجاء أيضاً غير مذكور الفاعل كقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏زُيّنَ لِلْمُسْرِفِينَ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 12‏]‏ وحينئذٍ يقدر في كل مكان ما يليق به، وقد مر لك ما يتعلق بهذا البحث فتذكر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏44‏]‏

‏{‏فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ ‏(‏44‏)‏‏}‏

‏{‏فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكّرُواْ بِهِ‏}‏ أي تركوا ما دعاهم الرسل عليهم الصلاة والسلام إليه وردوه عليهم ولم يتعظوا به كما روي عن ابن جريج، وقيل‏:‏ المراد أنهم انهمكوا في معاصيهم ولم يتعظوا بما نالهم من البأساء والضراء فلما لم يتعظوا ‏{‏فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلّ شَىْء‏}‏ من النعم الكثيرة كالرخاء وسعة الرزق مكراً بهم واستدراجاً لهم‏.‏ فقد روى أحمد والطبراني والبيهقي في «شعب الإيمان» من حديث عقبة بن عامر مرفوعاً ‏"‏ إذا رأيت الله تعالى يعطي العبد في الدنيا وهو مقيم على معاصيه فإنما هو استدراج ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏{‏فَلَمَّا نَسُواْ‏}‏ الآية وما بعدها ‏"‏ وروي عن الحسن أنه لما سمع الآية قال‏:‏ «مكر بالقوم ورب الكعبة أعطوا حاجتهم ثم أخذوا» وقيل‏:‏ المراد فتحنا عليهم ذلك إلزاماً للحجة وإزاحة للعلة، والظاهر أن ‏{‏فَتَحْنَا‏}‏ جواب ‏(‏لما‏)‏ لأن فيها سواء قيل بحرفيتها أو اسميتها معنى الشرط‏.‏ واستشكل ذلك بأنه لا يظهر وجه سببية النسيان لفتح أبواب الخير‏.‏ وأجيب بأن النسيان سبب للاستدراج المتوقف على فتح أبواب الخير، وسببية شيء لآخر تستلزم سببيته لما يتوقف عليه أو يقال‏:‏ إن الجواب ما ذكر باعتبار ماله ومحصله وهو ألزمناهم الحجة ونحوه وتسببه عنه ظاهر، وقيل‏:‏ إنه مسبب عنه باعتبار غايته وهو أخذهم بغتة‏.‏ وقرأ أبو جعفر وابن عامر ‏{‏فَتَحْنَا‏}‏ بالتشديد للتكثير‏.‏

‏{‏حتى إِذَا فَرِحُواْ‏}‏ فرح بطر ‏{‏بِمَا أُوتُواْ‏}‏ من النعم ولم يقوموا بحق المنعم جل شأنه ‏{‏أخذناهم‏}‏ عاقبناهم وأنزلنا بهم العذاب ‏{‏بَغْتَةً‏}‏ أي فجأة ليكون أشد عليهم وأفظع هولاً، وهي نصب على الحالية من الفاعل أو المفعول أي مباغتين أو مبغوتين أو على المصدرية أي بغتناهم بغتة ‏{‏فَإِذَا هُمْ مُّبْلِسُونَ‏}‏ أي آيسون من النجاة والرحمة كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما‏.‏ وقال البلخي‏:‏ أذلة خاضعون، وعن السدي الإبلاس تغير الوجه ومنه سمي إبليس لأن الله تعالى نكس وجهه وغيره، وعن مجاهد هو بمعنى الاكتئاب‏.‏ وفي «الحواشي الشهابية» للإبلاس ثلاثة معان في اللغة‏:‏ الحزن والحسرة واليأس وهي معان متقاربة‏.‏ وقال الراغب‏:‏ هو الحزن المعترض من شدة اليأس، ولما كان المبلس كثيراً ما يلزم السكوت وينسى ما يعنيه قيل‏:‏ أبلس فلان إذا سكت وإذا انقطعت حجته، وإذا هي الفجائية وهي ظرف مكان كما نص عليه أبو البقاء‏.‏ وعن جماعة أنها ظرف زمان، ومذهب الكوفيين أنها حرف؛ وعلى القولين الأولين الناصب لها خبر المبتدأ أي أبلسوا في مكان إقامتهم أو في زمانها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏45‏]‏

‏{‏فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏45‏)‏‏}‏

‏{‏فَقُطِعَ دَابِرُ القوم الذين ظَلَمُواْ‏}‏ أي آخرهم كما قال غير واحد، وهو من دبره إذا تبعه فكأنه في دبره أي خلفه، ومنه «إن من الناس من لا يأتي الصلاة إلا دبراً» أي في آخر الوقت‏.‏ وقال الأصمعي‏:‏ الدابر الأصل؛ ومنه قطع الله دابره أي أصله‏.‏ وأياً ما كان فالمراد أنهم استؤصلوا بالعذاب ولم يبق منهم أحد، ووضع الظاهر موضع الضمير للإشعار بعلة الحكم‏.‏ ‏{‏والحمد للَّهِ رَبّ العالمين‏}‏ على ما جرى عليهم من النكال والإهلاك فإن إهلاك الكفار والعصاة من حيث إنه تخليص لأهل الأرض من شؤم عقائدهم الفاسدة وأعمالهم الخبيثة نعمة جليلة يحق أن يحمد عليها فهذا منه تعالى تعليم للعباد أن يحمدوه على مثل ذلك، واختار الطبرسي أنه حمد منه عز اسمه لنفسه على ذلك الفعل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏46‏]‏

‏{‏قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآَيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ ‏(‏46‏)‏‏}‏

‏{‏قُلْ‏}‏ يا محمد على سبيل التبكيت والإلزام أيضاً ‏{‏أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ الله سَمْعَكُمْ وأبصاركم‏}‏ أي أصمكم وأعماكم فأخذهما مجاز عما ذكر لأنه لازم له، والاستدلال بالآية على بقاء العرض زمانين محل نظر‏.‏ ‏{‏وَخَتَمَ على قُلُوبِكُمْ‏}‏ بأن غطى عليها بما لا يبقى لكم معه عقل وفهم أصلاً‏.‏ وقيل‏:‏ يجوز أن يكون الختم عطفاً تفسيرياً للأخذ فإن البصر والسمع طريقان للقلب منهما يرد ما يرده من المدركات فأخذهما سد لبابه بالكلية وهو السر في تقديم أخذهما على الختم عليها‏.‏ واعترض بأن من المدركات ما لا يتوقف على السمع والبصر، ولهذا قال غير واحد بوجوب الإيمان بالله تعالى على من ولد أعمى أصم وبلغ سن التكليف، وقيل‏:‏ في التقديم إنه من باب تقديم ما يتعلق بالظاهر على ما يتعلق بالباطن‏.‏ ووجه تقديم السمع وإفراده قد تقدمت الإشارة إليه‏.‏

‏{‏مَّنْ إله غَيْرُ الله يَأْتِيكُمْ بِهِ‏}‏ أي بذلك على أن الضمير مستعار لاسم الإشارة المفرد لأنه الذي كثر في الاستعمال التعبير به عن أشياء عدة وأما الضمير المفرد فقد قيل فيه ذلك‏.‏ ونقل عن الزجاج أن الضمير راجع إلى المأخوذ والمختوم عليه في ضمن ما مر أي المسلوب منكم أو راجع إلى السمع وما بعده داخل معه في القصد ولا يخفى بعده‏.‏

وجوز أن يكون راجعاً إلى أحد هذه المذكورات، و‏{‏مِنْ‏}‏ مبتدأ و‏{‏إِلَهٍ‏}‏ خبره و‏{‏غَيْرِ‏}‏ صفة للخبر و‏{‏يَأْتِيَكُمُ‏}‏ صفة أخرى، والجملة كما قال غير واحد متعلق الرؤية ومناط الاستخبار أي أخبروني إن سلب الله تعالى مشاعركم من إله غيره سبحانه يأتيكم به وترك كاف الخطاب هنا قيل‏:‏ لأن التخويف فيه أخف مما تقدم ومما يأتي‏.‏ وقيل‏:‏ اكتفاء بالسابق واللاحق لتوسط هذه الخطاب بينهما، وقيل‏:‏ لما كان هذا العذاب مما لا يبقى القوم معه أهلاً للخطاب حذفت كافه إيماء لذلك ورعاية لمناسبة خفية‏.‏

‏{‏انظر كَيْفَ نُصَرّفُ الايات‏}‏ أي نكررها على أنهار مختلفة، ومنه تصريف الرياح‏.‏ والمراد من الآيات على ما روي عن الكلبي الآيات القرآنية وهل هي على الإطلاق أو ما ذكر من أول السورة إلى هنا‏؟‏ أو ما ذكر قبل هذا‏؟‏ أقوال أقربها عندي الأقرب وفيها الدال على وجود الصانع وتوحيده وما فيه الترغيب والترهيب والتنبيه والتذكير‏.‏ وهذا تعجيب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وقيل‏:‏ لمن يصلح للخطاب من عدم تأثرهم بما مر من الآيات الباهرات‏.‏ ‏{‏ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ‏}‏ أي يعرضون عن ذلك‏:‏ وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنشد لهذا المعنى قول أبي سفيان بن الحرث‏:‏ عجبت لحكم الله فينا وقد بدا *** له صدفنا عن كل حق منزل

وذكر بعضهم أنه يقال‏:‏ صدف عن الشيء صدوفاً إذا مال عنه‏.‏ وأصله من الصدف الجانب والناحية ومثله الصدفة وتطلق على كل بناء مرتفع‏.‏ وجاء في الخبر أنه صلى الله عليه وسلم مر بصدف مائل فأسرع‏.‏ والجملة عطف على ‏{‏نُصَرّفُ‏}‏ داخل معه في حكمه وهو العمدة في التعجيب‏.‏ و‏{‏ثُمَّ‏}‏ للاستبعاد أي أنهم بعد ذلك التصريف الموجب للإقبال والإيمان يدبرون ويكفرون‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏47‏]‏

‏{‏قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ ‏(‏47‏)‏‏}‏

‏{‏قُلْ أَرَأَيْتُكُم‏}‏ تبكيت آخر لهم بالجائهم إلى الاعتراف باختصاص العذاب بهم ‏{‏إِنْ أتاكم عَذَابُ الله‏}‏ أي العاجل الخاص بكم كما أتى أضرابكم من الأمم قبلكم ‏{‏بَغْتَةً‏}‏ أي فجأة من غير ظهور أمارة وشعور ولتضمنها بهذا الاعتبار ما في الخفية من عدم الشعور صح مقابلتها بقولخ سبحانه‏:‏ ‏{‏أَوْ جَهْرَةً‏}‏ وبدأ بها لأنها أردع من الجهرة‏.‏ وإنما لم يقل‏:‏ خفية لأن الإخفاء لا يناسب شأنه تعالى‏.‏ وزعم بعضهم أن البغتة استعارة للخفية بقرينة مقابلتها بالجهرة وإنها مكنية من غير تخييلية‏.‏ ولا يخفى أنه على ما فيه تعسف لا حاجة إليه فإن المقابلة بين الشيء والقريب من مقابله كثيرة في الفصيح‏.‏ ومنه قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ بشروا ولا تنفروا ‏"‏‏.‏ وعن الحسن أن البغتة أن يأتيهم ليلا والجهرة أن يأتيهم نهاراً‏.‏ وقرىء ‏{‏بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً‏}‏ بفتح الغين والهاء على أنهما مصدران كالغلبة أي أتيانا بغتة أو أتيانا جهرة‏.‏ وفي «المحتسب» لابن جني أن مذهب أصحابنا في كل حرف حلق ساكن بعد فتح لا يحرك إلا على أنه لغة فيه كالنهر والنهر والشعر والشعر والحلب والحلب والطرد والطرد‏.‏ ومذهب الكوفيين أنه يجوز تحريك الثاني لكونه حرفاً حلقياً قياسياً مطرداً كالبحر والبحر، وما أرى الحق إلا معهم‏.‏ وكذا سمعت من عامه عقيل‏.‏ وسمعت الشجري يقول‏:‏ محموم بفتح الحاء‏.‏ وليس في كلام العرب مفعول بفتح الفاء‏.‏ وقالوا‏:‏ اللحم يريد اللحم‏.‏ وسمعته يقول تغدو بمعنى تغدوا‏.‏ وليس في كلامهم مفعل بفتح الفاء وقالوا‏:‏ سار نحوه بفتح الحاء ولو كانت الحركة أصلية ما صحت اللام أصلاً اه‏.‏ وهي كما قال الشهاب فائدة ينبغي حفظها‏.‏ وقرىء ‏{‏بَغْتَةً‏}‏ بالواو الواصلة‏.‏

‏{‏جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ القوم الظالمون‏}‏ أي إلا أنتم ووضع الظاهر موضع ضميرهم تسجيلاً عليهم بالظلم وإيذاناً بأن مناط إهلاكهم ظلمهم ووضعهم الكفر موضع الإيمان والإعراض موضع الإقبال وهذا كما قال الجماعة متعلق الاستخبار والاستفهام للتقرير أي قل تقريراً لهم باختصاص الهلاك بهم أخبروني إن أتاكم عذابه جل شأنه حسبما تستحقونه هل يهلك بذلك العذاب إلا أنتم أي هل يهلك غيركم ممن لا يستحقه، وقيل‏:‏ المراد بالقوم الظالمين الجنس وهم داخلون فيه دخولاً أولياً‏.‏ واعترض بأنه يأباه تخصيص الإتيان بهم، وقيل‏:‏ الاستفهام بمعنى النفي لأن الاستثناء مفرغ والأصل فيه النفي، ومتعلق الاستخبار حينئذ محذوف كأنه قيل‏:‏ أخبروني إن أتاكم عذابه عز وجل بغتة أو جهرة ماذا يكون الحال‏.‏ ثم قيل‏:‏ بياناً لذلك ما يهلك إلا القوم الظالمون أي ما يهلك بذلك العذاب الخاص بكم ألا أنتم‏.‏ وقيد الطبرسي وغيره الهلاك بهلاك التعذيب والسخط توجيهاً للحصر إذ قد يهلك غير الظالم لكن ذلك رحمة منه تعالى به ليجزيه الجزاء الأوفى على ابتلائه، ولعله اشتغال بما لا يعني‏.‏ وقرىء ‏{‏يُهْلَكُ‏}‏ بفتح الياء‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏48‏]‏

‏{‏وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آَمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ‏(‏48‏)‏‏}‏

‏{‏وَمَا نُرْسِلُ المرسلين‏}‏ إلى الأمم ‏{‏إِلاَّ مُبَشّرِينَ‏}‏ من أطاع منهم بالثواب ‏{‏وَمُنذِرِينَ‏}‏ من عصى منهم بالعذاب، واقتصر بعضهم على الجنة والنار لأنهما أعظم ما يبشر به وينذر به، والمتعاطفان منصوبان على أنهما حالان مقدرتان مفيدتان للتعليل‏.‏ وصيغة المضارع للإيذان بأن ذلك أمر مستمر جرت عليه العادة الإلهية، والآية مرتبطة بقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزّلَ عَلَيْهِ ءايَةٌ مّن رَّبّهِ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 37‏]‏ أي ما نرسل المرسلين ألا لأجل أن يبشروا قومهم بالثواب على الطاعة وينذروهم بالعذاب على المعصية ولم نرسلهم ليقترح عليهم ويسخر بهم ‏{‏فَمَنْ ءامَنَ‏}‏ بما يجب الإيمان به ‏{‏وَأَصْلَحَ‏}‏ ما يجب إصلاحه والإتيان به على وفق الشريعة، والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها و‏(‏ من‏)‏ موصولة ولشبه الموصول بالشرط دخلت الفاء في قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ‏}‏ من العذاب الذي أنذر الرسل به ‏{‏وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ‏}‏ لفوات الثواب الذي بشروا به، وقد تقدم الكلام في هذه الآية غير مرة، وجمع الضمائر الثلاثة الراجعة إلى ‏(‏من‏)‏ باعتبار معناها كما أن إفراد الضميرين السابقين باعتبار لفظها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏49‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ‏(‏49‏)‏‏}‏

‏{‏والذين كَذَّبُواْ بئاياتنا‏}‏ أي التي بلغتها الرسل عليهم الصلاة والسلام عند التبشير والإنذار، وقيل‏:‏ المراد بها نبينا صلى الله عليه وسلم ومعجزاته؛ والأول هو الظاهر، والموصول مبتدأ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَمَسُّهُمُ العذاب‏}‏ خبره والجملة عطف على ‏{‏فَمَنْ ءامَنَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 48‏]‏ الخ‏.‏ والمراد بالعذاب العذاب الذي أنذروه عاجلاً أو آجلاً أو حقيقة العذاب وجنسه المنتظم لذلك انتظاماً أولياً؛ وفي جعله ماساً إيذان بتنزيله منزلة الحي الفاعل لما يريد ففيه استعارة مكنية على ما قيل‏.‏ وجوز الطيبي أن يكون في المس استعارة تبعية من غير استعارة في العذاب، والظاهر أن ما ذكر مبني على أن المس من خواص الأحياء‏.‏ وفي «البحر» أنه يشعر بالاختيار، ومنع ذلك بعضهم، وادعى عصام الملة أنه أشير بالمس إلى أن العذاب لا يأخذهم بحيث يعدمهم حتى يتخلصوا بالهلاك وله وجه‏.‏

‏{‏بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ‏}‏ أي بسبب فسقهم‏.‏ نعم أخرج ابن جرير عن ابن زيد «أن كل فسق في القرآن معناه الكذب»، ولعله في حيز المنع وخروجهم المستمر عن حظيرة الإيمان والطاعة، وقد يقال‏:‏ الفاسق لمن خرج عن التزام بعض الأحكام لكنه غير مناسب ههنا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏50‏]‏

‏{‏قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ ‏(‏50‏)‏‏}‏

‏{‏قُلْ‏}‏ أيها الرسول البشير النذير للكفرة الذين يقترحون عليك ما يقترحون‏:‏ ‏{‏لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِى خَزَائِنُ الله‏}‏ أي مقدوراته جمع خزينة أو خزانة وهي في الأصل ما يحفظ فيه الأشياء النفيسة تجوز فيها عما ذكر، وعلى ذلك الجبائي وغيره، ولم يقل‏:‏ لا أقدر على ما يقدر عليه الله قيل‏:‏ لأنه أبلغ لدلالته على أنه لقوة قدرته كأن مقدوراته مخزونة حاضرة عنده، وقيل‏:‏ إن الخزائن مجاز عن المرزوقات من إطلاق المحل على الحال أو اللازم على الملزوم؛ وقيل‏:‏ الكلام على حذف مضاف أي خزائن رزق الله تعالى أو مقدوراته، والمعنى لا أدعي أن هاتيك الخزائن مفوضة إليَّ أتصرف فيها كيفما أشاء استقلالاً أو استدعاء حتى تقترحوا عليَّ تنزيل الآيات أو إنزال العذاب أو قلب الجبال ذهباً أو غير ذلك مما لا يليق بشأني‏.‏

‏{‏وَلا أَعْلَمُ الغيب‏}‏ عطف على محل ‏{‏عِندِى خَزَائِنُ الله‏}‏ فهو مقول ‏{‏أَقُولُ‏}‏ أيضاً، ونظر فيه الحلبي من حيث إنه يؤدي إلى أن يصير التقدير ولا أقول لكم لا أعلم الغيب وليس بصحيح‏.‏ وأجيب بأن التقدير ولا أقول لكم أعلم الغيب بإضماء القول بين ‏{‏لا‏}‏ و‏{‏أَعْلَمُ‏}‏ لا بين الواو و‏{‏لا‏}‏، وقيل‏:‏ ‏(‏لا‏)‏ في ‏{‏لا أَعْلَمُ‏}‏ مزيدة مؤكدة للنفي‏.‏ وقال أبو حيان‏:‏ «الظاهر أنه عطف على ‏{‏لا أَقُولَ‏}‏ لا معمول له فهو أمر أن يخبر عن نفسه بهذه الجمل ‏(‏الثلاث‏)‏ فهي معمولة للأمر الذي هو ‏{‏قُلْ‏}‏»، وتعقب بأنه لا فائدة في الإخبار بأني لا أعلم الغيب وإنما الفائدة في الإخبار بأني لا أقول ذلك ليكون نفيا لا دعاء الأمرين اللذين هما من خواص الإلهية ليكون المعنى إني لا أدعي الإلهية‏.‏

‏{‏وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنّى مَلَكٌ‏}‏ ولا أدعي الملكية، ويكون تكرير ‏{‏لا أَقُولَ‏}‏ إشارة إلى هذا المعنى‏.‏ وقال بعض المحققين‏:‏ إن مفهومي ‏{‏عِندِى خَزَائِنُ الله‏}‏‏.‏ و‏{‏إِنّى مَلَكٌ‏}‏ لما كان حالهما معلوماً عند الناس لم يكن حاجة إلى نفيهما وإنما الحاجة إلى نفي ادعائهما تبرياً عن دعوى الباطل، ومفهوم ‏{‏أَنّى لاَ أَعْلَمُ الغيب‏}‏ لما لم يكن معلوماً احتيج هنا إلى نفيه فدعوى أنه لا فائدة في الإخبار بذلك منظور فيها‏.‏ والذي اختاره مولانا شيخ الإسلام القول الأول وأن المعنى «ولا أدعي أيضاً أني أعلم الغيب من أفعاله عز وجل حتى تسألوني عن وقت الساعة أو وقت إنزال العذاب أو نحوهما2‏.‏

وخص ابن عباس رضي الله تعالى عنهما الغيب بعاقبة ما يصيرون إليه أي لا أدعي ذلك ولا أدعي أيضاً الملكية حتى تكلفوني من الأفاعيل الخارقة للعادات ما لا يطيقه البشر من الرقي في السماء ونحوه أو تعدوا عدم اتصافي بصفاتهم قادحاً في أمري كما ينبىء عنه قولهم‏:‏

‏{‏مَا لهذا الرسول يَأْكُلُ الطعام وَيَمْشِى فِى الاسواق‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 7‏]‏ وليس في الآية على هذا دليل على تفضيل الملائكة على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فيما هو محل النزاع كما زعم الجبائي لأنها إنما وردت رداً على الكفار في قولهم ‏{‏مَا لهذا الرسول‏}‏ الخ وتكليفهم له عليهم الصلاة والسلام بنحو الرقي في السماء‏.‏ ونحن لا ندعي تميز الأنبياء على الملائكة عليهم الصلاة والسلام في عدم الأكل مثلا والقدرة على الأفاعيل الخارقة كالرقي ونحوه ولا مساواتهم لهم في ذلك بل كون الملائكة متميزين عليهم عليهم الصلاة والسلام في ذلك مما أجمع عليه الموافق والمخالف ولا يوجب ذلك اتفاقاً على أن الملائكة أفضل منهم بالمعنى المتنازع فيه وإلا لكان كثير من الحيوانات أفضل من الإنسان ولا يدعي ذلك الاجماد‏.‏

وهذا الجواب أظهر مما نقل عن القاضي زكريا من أن هذا القول منه صلى الله عليه وسلم من باب التواضع وإظهار العبودية نظير قوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ «لا تفضلوني على ابن متى» في رأي بل هو ليس بشيء كما لا يخفى‏.‏ وقيل‏:‏ إن الأفضلية مبنية على زعم المخاطبين وهو من ضيق العطن، وقيل‏:‏ حيث كان معنى الآية لا أدعي الألوهية ولا الملكية لا يكون فيها ترق من الأدنى إلى الأعلى بل هي حينئذ ظاهرة في التدلي، وبذلك تهدم قاعدة استدلال الزمخشري في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَّن يَسْتَنكِفَ المسيح أَن يَكُونَ عَبْداً للَّهِ وَلاَ الملئكة المقربون‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 172‏]‏ على تفضيل الملك على البشر إذ لا يتصور الترقي من الألوهية إلى ما هو أعلا منها إذ لا أعلا ليترقى إليه‏.‏ وتعقب بأنه لا هدم لها مع إعادة ‏{‏لا أَقُولَ‏}‏ الذي جعله أمراً مستقلاً كالإضراب إذ المعنى لا أدعي الألوهية بل ولا الملكية، ولذا كرر ‏{‏لا أَقُولَ‏}‏‏.‏

وقال بعضهم في التفرقة بين المقامين‏:‏ إن مقام نفي الاستنكاف ينبغي فيه أن يكون المتأخر أعلا لئلا يلغو ذكره، ومقام نفي الادعاء بالعكس فإن من لا يتجاسر على دعوى الملكية أولى أن لا يتجاسر على دعوى الألوهية الأشد استبعاداً، نعم في كون المراد من الأول نفي دعوى الألوهية والتبري منها نظر وإلا لقيل لا أقول لكن إني إله كما قيل ‏{‏وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنّى مَلَكٌ‏}‏ وأيضاً في الكناية عن الألوهية بعندي خزائن الله ما لا يخفى من البشاعة، وإضافة الخزائن إليه تعالى منافية لها‏.‏ ودفع المنافاة بأن دعوى الألوهية ليس دعوى أن يكون هو الله تعالى بل أن يكون شريكاً له عز اسمه في الألوهية فيه نظر لأن إضافة الخزائن إليه تعالى اختصاصية فتنافي الشركة اللهم إلا أن يكون خزائن مثل خزائن أو تنسب إليه وهو كما ترى‏.‏

ومن هنا قال شيخ الإسلام‏:‏ إن جعل ذلك تبرياً عن دعوى الألوهية مما لا وجه له قطعاً‏.‏

‏{‏إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يوحى إِلَىَّ‏}‏ أي ما أفعل إلا اتباع ما يوحى إلي من غير أن يكون لي مدخل ما في الوحي أو في الموحي بطريق الاستدعاء أو بوجه آخر من الوجوه أصلاً‏.‏ وحاصله إني عبد يمتثل أمر مولاه ويتبع ما أوحاه ولا أدعي شيئاً من تلك الأشياء حتى تقترحوا عليّ ما هو من آثارها وأحكامها وتجعلوا عدم إجابتي إلى ذلك دليلاً على عدم صحة ما أدعيه من الرسالة‏.‏ ولا يخفى أن هذا أبلغ من إني نبي أو رسول ولذا عدل إليه‏.‏ ولا دلالة فيه لنفاة القياس ولا لمانعي جواز اجتهاده عليه الصلاة والسلام كما لا يخفى‏.‏ وذهب البعض إلى أن المقصود من هذا الرد على الكفرة كأنه قيل‏:‏ إن هذه دعوى وليست مما يستبعد إنما المستبعد ادعاء البشر الألوهية أو الملكية ولست أدعيهما‏.‏ وقد علمت آنفاً ما في دعوى أن المقصود مما تقدم نفي ادعاء الألوهية والملكية‏.‏

‏{‏قُلْ هَلْ يَسْتَوِى الاعمى والبصير‏}‏ أي الضال والمهتدي على الإطلاق كما قال غير واحد‏.‏ والإستفهام إنكاري، والمراد إنكار استواء من لا يعلم ما ذكر من الحقائق ومن يعلمها مع الإشعار بكمال ظهورها والتنفير عن الضلال والترغيب في الاهتداء، وتكرير الأمر ‏(‏لتثبيت‏)‏ التبكيت وتأكيد الإلزام‏.‏

‏{‏أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ‏}‏ عطف على مقدر يقتضيه المقام أي ألا تسمعون هذا الكلام الحق فلا تتفكرون فيه أو أتسمعونه فلا تتفكرون‏.‏ والاستفهام ‏(‏للتقرير‏)‏ والتوبيخ‏.‏ والكلام داخل تحت الأمر‏.‏ ومناط التوبيخ عدم الأمرين على الأول وعدم التفكر مع تحقق ما يوجبه على الثاني‏.‏ وذكر بعضهم أن في ‏{‏الاعمى والبصير‏}‏ ثلاث احتمالات إما أن يكونا مثالاً للضال والمهتدي أو مثالاً للجاهل والعالم أو مثالاً لمدعي المستحيل كالألوهية والملكية ومدعى المستقيم كالنبوة‏.‏ وإن المعنى لا يستوي هذان الصنفان أفلا تتفكرون في ذلك فتهتدوا أي فتميزوا بين ادعاء الحق والباطل أو فتعلموا أن اتباع الوحي مما لا محيص عنه‏.‏ والجملة تذييل لما مضى إما من أول السورة إلى هنا أو لقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏إِنْ أَتَّبِعُ‏}‏ الخ أو لقوله عز شأنه ‏{‏لا أَقُولَ‏}‏‏.‏ ورجح في «الكشف» الأول ثم الثاني‏.‏ ولا يخفى بعد هذا الترجيح‏.‏ واعترض القول بإحالة الملكية بأنها من الممكنات لأن الجواهر متماثلة والمعاني القائمة ببعضها يجوز أن تقوم بكلها‏.‏ وأجيب بعد تسليم ما فيه أن البشر حال كونه بشراً محال أن يكون ملكاً لتمايزهما بالعوارض المتنافية بلا خلاف وإقدام آدم عليه الصلاة والسلام بعد سماع ‏{‏مَا نهاكما رَبُّكُمَا عَنْ هذه الشجرة إِلا أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الخالدين‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 20‏]‏ على الأكل ليس طمعاً في الملكية حال البشرية على أنه يجوز أن يقال‏:‏ إنه لم يطمع في الملكية أصلاً وإنما طمع في الخلود فأكل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏51‏]‏

‏{‏وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ‏(‏51‏)‏‏}‏

‏{‏وَأَنذِرِ‏}‏ أي عظ وخوف يا محمد ‏{‏بِهِ‏}‏ أي بما يوحى أو بالقرآن كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما والزجاج، وقيل‏:‏ أي بالله تعالى وروي ذلك عن الضحاك‏.‏ وهذا أمر منه سبحانه وتعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم بعد ما حكى سبحانه وتعالى له أن من الكفرة من لا يتعظ ولا يتأثر قد التحق بالأموات وانتظم في سلك الجمادات فما ينجع فيه دواء الإنذار ولا يفيده العظة والتذكار إذ ينذر من يتوقع في الجملة منهم الانتفاع ويرجى منهم القبول والسماع وهو المشار إليهم بقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏الذين يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُواْ إلى رَبّهِمْ‏}‏ فالمراد من الموصول المجوزون للحشر على الوجه الآتي سواء كانوا جازمين بأصله كأهل الكتاب وبعض المشركين المعترفين بالبعث المترددين في شفاعة آبائهم الأنبياء كالأولين أو في شفاعة الأصنام كالآخرين أو المترددين فيهما معاً كبعض الكفرة الذين يعلم من حالهم أنهم إذا سمعوا بحديثه يخافون أن يكون حقاً، وأما المنكرون للحشر رأساً والقائلون به القاطعون بشفاعة آبائهم أو بشفاعة الأصنام فهم خارجون ممن أمر بإنذارهم كذا قال شيخ الإسلام‏.‏

وروي عن ابن عباس والحسن رضي الله تعالى عنهم أن المراد بالموصول المؤمنون وارتضاه غير واحد إلا أنهم قيدوا بالمفرطين لأنه المناسب للإنذار ورجاء التقوى‏.‏ وتعقبه الشيخ بأنه مما لا يساعده السباق ولا السياق بل فيه ما يقضي بعدم صحته وبينه بما سيذكر قريباً إن شاء الله تعالى، وقيل‏:‏ المراد المؤمنون والكافرون وعلله الإمام الرازي «بأنه لا عاقل إلا وهو يخاف الحشر سواء قطع بحصوله أو كان شاكاً فيه لأنه بالاتفاق غير معلوم البطلان بالضرورة فكان هذا الخوف قائماً في حق الكل وبأنه عليه الصلاة والسلام كان مبعوثاً إلى الكل فكان مأموراً بالتبليغ إليه» ولا يخفى ما فيه، والمفعول الثاني للإنذار إما العذاب الأخروي المدلول عليه بما في حيز الصلة، وإما مطلق العذاب الذي ورد به الوعيد‏.‏ والتعرض لعنوان الربوبية بتحقيق المخافة إما باعتبار أن التربية المفهومة منها مقتضية خلاف ما خافوا لأجل الحشر‏.‏ وإما باعتبار أنها منبئة عن المالكية المطلقة والتصرف الكلي كما قيل‏.‏ والمراد من الحشر إليه سبحانه الحشر إلى المكان الذي جعله عز وجل محلاً لاجتماعهم وللقضاء عليهم فلا تصلح الآية دليلاً للمجسمة‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏لَيْسَ لَهُمْ مّن دُونِهِ وَلِىٌّ وَلاَ شَفِيعٌ‏}‏ في حيز النصب على الحالية من ضمير ‏{‏يُحْشَرُواْ‏}‏ والعامل فيه فعله‏.‏ ونقل الإمام عن الزجاج أنه حال من ضمير ‏{‏يَخَافُونَ‏}‏ والأول أولى‏.‏ و‏{‏مِن دُونِهِ‏}‏ متعلق بمحذوف وقع حالاً من اسم ليس لأنه في الأصل صفة له فلما قدم عليه انتصب على الحالية، والحال الأولى لإخراج الحشر الذي لم يقيد بها عن حيز الخوف وتحقيق أن ما نيط به الخوف ‏(‏هو الحشر على‏)‏ تلك الحالة لا الحشر كيفما كان ضرورة أن المعترفين به الجازمين بنصرة غيره تعالى بمنزلة المنكرين له في عدم الخوف الذي يدور عليه أمر الإنذار والحال الثانية لتحقيق مدار خوفهم وهو فقدان ما علقوا به رجاءهم وذلك إنما هو ‏(‏ولاية‏)‏ ‏(‏1‏)‏ غيره سبحانه كما في قوله جل شأنه‏:‏

‏{‏وَمَن لاَّ يُجِبْ دَاعِىَ الله فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِى الارض وَلَيْسَ لَهُ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء‏}‏ ‏[‏الأحقاق‏:‏ 32‏]‏ وليست لإخراج الولي الذي لم يقيد بها عن حيز الانتفاء لاستلزامه ثبوت ولايته تعالى لهم كما في قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَمَا لَكُم مّن دُونِ الله مِن وَلِيّ وَلاَ نَصِيرٍ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 107‏]‏ وذلك فاسد‏.‏ والمعنى أنذر به الذين يخافون حشرهم غير منصورين من جهة أنصارهم بزعمهم قاله شيخ الإسلام، ثم قال‏:‏ ومن هذا اتضح أن لا سبيل إلى كون المراد بالخائفين المفرطين من المؤمنين إذ ليس لهم ولي ولا شفيع سواه عز وجل ليخافوا الحشر بدون نصرته وإنما الذي يخافونه الحشر بدون نصرته سبحانه انتهى‏.‏ وهو تحقيق لم أره لغيره ويصغر لديه ما في «التفسير الكبير»، ولعل ما روي عن ابن عباس والحسن رضي الله تعالى عنهم لم يثبت عنهما فتدبر‏.‏

‏{‏لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ‏}‏ أي لكي يخافوا في الدنيا وينتهوا عن الكفر والمعاصي كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وهو على هذا تعليل للأمر بالإنذار، وجوز أن يكون حالاً عن ضمير الأمر أي أنذرهم راجياً تقواهم أو من الموصول أي أنذرهم مرجواً منهم التقوى‏.‏